الإمام البخاري
ولد الإمام محمد بن إسماعيل البخاري ، الذي استطاع جمع الأحاديث النبوية الشريفة الصحيحة ، في عام 194 هـ ، في مدينة البخارية بقارة آسيا ، لرجل صالح يدعى إسماعيل ، كان قد حج إلى بيت الله الحرام ، وهناك التقى بالإمام أنس بن مالك ، وروى عنه بعض الأحاديث ، وكان الحاج إسماعيل قد فرح بمولد ابنه فرحًا شديدًا ، فأسماه محمدًا تيمنًا بالنبي الكريم ، صلّ الله عليه وسلم ، وكان قد سمَّى أخاً له مِنْ قبل أحمد.
ولم يلبثْ أنْ أدركهُ الموتُ قبل أنْ يشبَّ “محمد” فقال – وهو على فراش الموت – كلمةً تدل على تديُّنهِ الصادقِ، وورعهِ الشديد، قال:” إنّه لا يعلم في مالهِ درهماً مِنْ حرام، ولا درهماً مِنْ شبهة”.
نشأ البخاري طفلا يتيما في كنف والدته، بعد أن توفى والده إسماعيل.
واحتضنتْ زوجةُ إسماعيل ولديها، وقامتْ عليهما أحسنَ قيام، ولكن حصل ما كدَّرَ عيشَها، وأرَّق ليلَها وأطال همَّها، فقد ذهبَ بصرُ “محمد” ابنِها الصغير، وبات لا يرى شيئاً، وما مِنْ شيءٍ أقسى على قلب الأمِّ مِنْ مرضٍ عارضٍ ينزلُ بأحد أبنائها فكيف بعلةٍ كهذه، قد تلازمُ الإنسانَ في حياته كلها، وتصرفُهُ عن العلم، وتحولُ بينه وبين حريةِ الحركة، ومتعةِ السفر، ولذةِ الحياة، وجمالِ الدنيا؟ ماذا تصنعُ تلك الأم، وهذا محمدٌ وليدُها المُدَلَّل جالسٌ لا يتحرك، وإذا قام تعثّر في مشيته، وأصبح محتاجاً إلى المساعدة في شؤونه كلها! ماذا تصنع!
وهنا ألهمها المُلهمُ الكريمُ الذي لا تُغلقُ أبوابُه، ولا يُسْدلُ حجابُه، ولا تنقطعُ عطاياه ولا تنفدُ مواهبُه، ألهمها كما يُلهِم القلوبَ المنكسرة والنفوسَ الضارعة، أنْ تلجأ إليه، وتتوسل بكرمه وجوده. واستجابت أمُّ محمد لإلهام ربِّها ونداء قلبها، وكانت إذا أسدلَ الليلُ أستارَه، وأخلد محمدٌ وأخوه إلى النوم، وحلَّ السكونُ على بخارى، كانت تقومُ فتتوضأ وتقفُ بين يدي مولاها باكيةً داعيةً شاكيةً إليه ما نزَلَ بعيْنَي “محمدٍ” مِنْ عمى، وما نزَلَ بقلبها مِن همٍّ، وما نزَلَ بالبيت مِنْ حُزن.
ودامتْ على ذلك مدةً، وقد استطابتْ هذه الوقفة بين يدي الله تبثُّه نجواها، وترفع إليه شكواها، وتطرق بابَهُ الكريم، ولا بُدَّ لبابِ الكريم إذا طُرِقَ مِن أنْ يفتح.
وذات ليلةٍ قامتْ أمُّ محمد فصلَّتْ ودعتْ، ودعتْ، وألحّتْ في الدعاء، ثم أدركتها سِنةٌ من النوم، وإذا بها بإبراهيم الخليل عليه السلام يقولُ لها: “يا هذه، قد ردَّ الله على ابنك بصره بكثرة دعائك وبكائك “.
واستيقظتْ وقلبُها يخفقُ من هذه الرؤيا وبشارتِها ووضوحِها، وجلستْ تنتظرُ الصباحَ بفارغ الصبر. وأُذِّنَ لصلاة الفجر، وأيقظتْ أمُّ “محمد” ولديها للصلاة، وهنا كانت المفاجأة ورأتْ صدقَ الرؤيا … لقد أبصرَ “محمد” وقام يتوضأ وحده، وبكت الأمُّ وسجدتْ لله تبلُّ مصلاها بدموعها.
مازال التاريخ يسطر بحروف من نور أدوار لأمهات صنعن رجالا، ومن ضمنهم: أم صالحة عابدة تقية، هي أم الإمام البخاري الملقب بـ “أمير المؤمنين في الحديث”، “أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري”.
فاهتمت والدته بتربيته والعناية به، وحرصت على أن ينهل من العلم ويترعرع عليه، فأسلمته إلى معلم الكُتاب، وظل يتعلم على يديه إلى أن بلغ عشر سنوات.
وعندما بلغ ستة عشرة سنة، أرادتْ أنْ تشكر اللهَ عند بيته، فأخذتْ ولديها وانطلقوا إلى مكة، فحجُّوا وذلك سنة (210هـ)، ورجعت الأمُّ وأحمدُ إلى بخارى، وظلَّ “محمد” هناك يطلبُ العلم.
وتحدث البخاري عن خروجه مع والدته وأخيه إلى مكة عندما سؤل :” كيف كان بدء أمرك؟ قال:” ألهمت حفظ الحديث في المكتب ولى عشر سنين أو أقل، وخرجت من الكتّاب بعد العشر، فجعلت أختلف إلى الداخليّ وغيره، فقال يوماً فيما يقرأ على الناس: سفيان عن أبى الزبير عن إبراهيم. فقلت له: إن أبا الزبير لم يرو عن إبراهيم. فانتهرني. فقلت له: ارجع إلى الأصل. فدخل ثم خرج فقال لي: كيف يا غلام؟ قلت: هو الزبير بن عدى عن إبراهيم. فأخذ القلم مني وأصلحه. وقال: صدقت”.
وسؤل: ” ابن كم كنت؟ قال: “ابن إحدى عشرة سنة. فلما طعنت في ست عشرة سنة حفظت كتب ابن المبارك ووكيع وعرفت كلام هؤلاء، ثم خرجت مع أمى وأخى أحمد إلى مكة فلما حججت رجع أخى بها وتخلفت في طلب الحديث، فلما طعنت في ثماني عشرة سنة جعلت أصنف قضايا الصحابة والتابعين وأقاويلهم وذلك أيام عبيد الله بن موسى وصنفت كتاب التاريخ إذ ذاك عند قبر النبى صلى الله عليه وسلم في الليالى المقمرة وقل اسم في التاريخ إلا وله عندى قصة، إلا أنى كرهت تطويل الكتاب”.
في هذا الوقت ، ظل الإمام محمد يسافر من مكان لآخر ، يطلب العلم ويجالس العلماء ، وقد أظهر نبوغًا وذكاء شديدًا ، خاصة في علم الحديث الشريف. وأخذ عن (1080) شيخ، وظهرَ نبوغُهُ، وتميَّزَ على أقرانهِ، وطار اسمُهُ في الآفاق، وألَّفَ المؤلفات الرائعة، وعلى رأسها كتابه “الجامع الصحيح المُسْند المُختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسُنَنِهِ وأيامهِ” المعروف بـ “صحيح البخاري” الذي حظي بثناءٍ ما بعده ثناء، والذي أجمع علماء أهل السنة والجماعة أنه أصح الكتب بعد القرآن الكريم، والذي أمضى في جمعه وتصنيفه 16 عاما وله كتاب “الأدب المفرد” الذي لا يَستغني عنه مسلمٌ يريدُ أنْ يتأدَّبَ بآداب الإسلام”.
وما زال يترقَّى في مراتبِ العلم، ومنازلِ العمل، ومداركِ الفضل، حتى أصبح وجودُهُ زينةً للأمَّة، وأيامُهُ مواسمَ للخير، تحتفلُ بقدومهِ البلادُ، ويتمنّى رؤيتَهُ العلماءُ.
وكان في الناس مَنْ يودُّ أنْ يهبه مِنْ عمره، فهذا العالم الجليل يحيى بن جعفر البيكندي يقولُ: “لو قدرتُ أن أزيدَ مِن عمري في عمر محمد بن إسماعيل لفعلتُ، فإنَّ موتي يكونُ موتَ رجلٍ واحدٍ، وموت محمد بن إسماعيل فيه ذهابُ العلم”.
وفي ليلة عيد الفطر سنة (256هـ) استأثرَ اللهُ بروح محمد بن إسماعيل، فعاد إلى ربهِ راضياً مرضياً.
وفي حدود سنة (730هـ) زار الرحالةُ ابنُ بطوطة قبرَه في بخارى، ورأى أسماءَ مصنّفاته مكتوبةً على شاهد القبر!