هل بناها الجن أم كانت مكاناً لقرابين بشرية... ما قصة مدينة سيفار الجزائرية وما حقيقتها؟
على امتداد النظر في مدينة سيفار الجزائرية في قلب الصحراء، تبدو السماء الصافية كأنها تلامس أرض الصحراء القاحلة في انسجام تام، مخلفة انطباعاً عميقاً بأن الأرض تضم السماء في حضنها، بينما تتنزل السماء لتمس الأرض. يحكم الصمت المطلق والهدوء العميق، تتكشف لوحة طبيعية تحبس الأنفاس، يمكنك سماع ذرات الرمال تحت قدميك، تحيطك تشكيلات صخرية غريبة نحتتها البراكين والعوامل الطبيعية يمكن للزائر أن يختبر معرضاً طبيعياً نادراً، حيث نحتت البراكين والقوى الطبيعية تشكيلات صخرية تتحدى الخيال بجمالها وإبداعها، مقارنةً بما يشاهد في أرقى معارض النحت المعاصرة.
هذا المشهد، الذي كان يوماً ما موطناً لواحة خضراء زاخرة بالحياة في غابر الأزمان، يقدم شهادةً حيةً على التحولات المذهلة التي يمكن أن تشهدها الطبيعة عبر الآلاف من السنين.
أحد مداخل مدينة سيفار
مدينة سيفار أرض الخرافات
تقع مدينة سيفار الأثرية، ضمن منطقة “طاسيلي ناجر”، أو “هضبة الثور” كما يُطلق عليها في لغة قبائل الطوارق التي سكنت هذه المنطقة منذ آلاف السنين. هذه السلسلة الجبلية، التي ترتفع وسط الرمال الذهبية للصحراء في الجنوب الشرقي للجزائر، تخفي بين ثناياها واحداً من أبرز الكنوز التاريخية: نقوشاً على جدران الكهوف تعود إلى عصور ما قبل التاريخ.
تلك النقوش البدائية ليست مجرد شهادات تاريخية، بل أصبحت محوراً للعديد من الشائعات والأساطير التي غذت الخيال الشعبي على مر العصور. صعوبة التنقل بين الدهاليز الضيقة والممرات الوعرة لجبال طاسيلي لم تفعل سوى إضافة المزيد من الغموض حول هذه المنطقة، حتى إن البعض ذهب إلى تصديق نظريات تفيد بأن كائنات فضائية أو حتى الجن هم من خلف هذه النقوش الغامضة.
بعض الرسوم على جدران كهف بمدينة “سيفار” حيث عجز العلماء عن تفسيرها
يصدق البعض أن هناك كائنات فضائية عاشت منذ آلاف السنين على أرض طاسيلي، بينما تقول نظريات أخرى إن المدينة كان يسكنها الجن وهم مَن نقشوا تلك النقوش. على جانب آخر، تحكي إحدى القصص أن الساحر والشاعر ومتسلق الجبال الشهير آليستر كراولي قد جاء إلى طاسيلي بعد اكتشافها من جانب السكان الأصليين للمنطقة، ومن ثم بعض علماء الآثار، ليستكشف الغموض الكائن حولها هو ومجموعة من أصدقائه، وتقول الأسطورة إن كل مَن معه اختفوا داخل الصحراء ولم يعد سواه.
نقوش صخرية تعود إلى عصور ما قبل التاريخ في صحراء طاسيلي
هضبة ما قبل التاريخ
كان ذلك عام 1969، حين ظهرت الكثير من الرسوم والنقوش الصخرية الموجودة في طاسيلي وخرجت إلى الحياة ليراها كل العالم، وذلك من خلال حملات استكشافية بمساعدة السكان الأصليين للمنطقة.، وقد أعلن المسؤولون في تلك المنطقة أنه حتى عام 2020 سُجل ما لا يقل عن 17 ألف موقع أثري بالإقليم وذلك منذ سنة 2016، أي خلال أربع سنوات فقط.
في عام 1982 سُجلت منطقة طاسيلي ضمن قائمة التراث العالمي لليونسكو بوصفها أقدم وأكبر مدينة صخرية أو “غابة صخرية” في العالم بمساحة تُقدَّر بـ89342 كيلومترا مربعا، وأوضحت منظمة اليونيسكو أن تلك المنطقة تحتوي على ما يزيد على 15 ألف رسم ونقش على جدران الكهوف. أما فيما يخص التكوين الجيولوجي للمنطقة، فيذكر الباحثون أن منطقة طاسيلي قديمة التكوين، حيث تعود مجموعة الهضاب التي تُشكِّل المنطقة إلى حقبة الباليوزويك، أي الزمن الجيولوجي الأول بين 550 مليون سنة و370 مليون سنة.
سيفار ضمن التراث العالمي لليونسكو
تُدون تلك النقوش، بشيء من التفصيل، التغيرات المناخية التي مرت بالمنطقة وهجرة الحيوانات المترتبة عليها، كما ترصد الرسومات التطور الذي وصل إليه البشر قبل نحو 6 آلاف عام قبل الميلاد في إطار فني إبداعي. هذا ويُعَدُّ الفن واحدا من الأمور التي يمكن من خلالها قياس تطور العقل البشري ، وقديما كان الفن الصخري هو وسيلة الإنسان للتعبير، وتُعَدُّ منطقة طاسيلي أكبر معرض فني في العالم لهذا النوع من فنون ما قبل التاريخ.
أقدم اللوحات الصخرية في صحراء طاسيلي
وما يميز هذه النقوش عن غيرها في سائر المناطق حول العالم أنها ظلت مستمرة وتجددت، فقد وجد الآثاريون أن آلاف الرسومات والنقوش الصخرية في منطقة طاسيلي امتدت على مدار آلاف السنين وحتى القرون الأولى من الميلاد. وقد كرَّس السكان الأقدم للمنطقة معظم نقوشهم لتجسيد الجانب الديني والسحري لتلك المجتمعات، مما جعل النقوش مادة رئيسية لدارسي الديانات فيما قبل التاريخ، خاصة فترة “الرؤوس المستديرة“، كما أطلق عليها علماء الآثار والباحثون. يرجع تسمية فترة “الرؤوس المستديرة” بهذا الاسم إلى احتواء النقوش التي تعود إليها على رسومات عديدة تجسد رجالا برؤوس مستديرة غريبة الشكل بعض الشيء، تلك الرسومات كانت مادة ثرية لناسجي الخرافات حول منطقة طاسيلي الذين قالوا إنها تجسد الفضائيين أو الجن، الأمر الذي فسره بعض الباحثين أنه يعود إلى قلة الدراسات الموثقة حول المنطقة و”كثرة الهواة” المهتمين بها .
هل كان البشر الأوائل في طاسيلي مؤمنين؟
في حين وجد الهواة تفسيرا سهلا وبسيطا لأشكال الرجال ذوي الرؤوس المستديرة المنقوشة على جدران كهوف طاسيلي، وأرجعوا تلك الأشكال إلى أنها كائنات من الجن أو الفضائيين، كانت تلك الرسوم بالنسبة إلى الباحثين بمنزلة إشارة إلى بعض الطقوس الدينية والروحانية التي تشير إلى أن البشر الأوائل الذين عاشوا في مدينة سيفار ومنطقة طاسيلي عموما كانت لهم عقائد إيمانية.
تشبه هذه الرموز في دلالاتها النقش المصري القديم الذي يُظهِر جسم رجل وهو يرتدي قناع ابن آوى ويقف بجوار جثة الميت، وهو لا يعني بالتأكيد أن هناك رجلا برأس حيوان كان يحنط المصريين القدماء بعد موتهم، لكنه يشير إلى ما اكتشفه الأثريون من أن طقوس التحنيط في مصر القديمة كانت تُلزم الشخص الذي يعمل في تحنيط الموتى بارتداء قناع لحيوان آوى ليكون المحنِّط رمزا وتجسيدا لأنوبيس، الإله المسؤول عن إرشاد الأرواح في العالم الآخر بعد الموت، وفق الاعتقاد السائد آنذاك.
عادة ما تكون طقوس الموت والدفن مرتبطة ارتباطا وثيقا بطبيعة العقيدة لدى كل حضارة، ولذلك استرعت المدافن التي وُجدت في منطقة طاسيلي بالجزائر اهتمام الباحثين في محاولة للتأكد من اعتناق مَن عاشوا على تلك الأرض ورسموا هذه النقوش عقيدة إيمانية ما. حيث وجد الأثريون الكثير من الجثث مدفونة في الوضعية الجانبية إلى الجهة اليمنى والأطراف السفلية مثنية، وكانت تلك الطريقة منتشرة وشائعة بين الشعوب الصحراوية في فجر التاريخ، وعادة ما يطلق عليها الوضعية الجنينية نسبة إلى وضع الجنين في رحم الأم.
في بعض المواقع الأخرى، عُثر على وضعية دفن مختلفة، حيث نجد الأطراف العلوية مثنية نحو الرأس أو الوجه أو تحت الرأس مثلما في مواقع الدفن بمنطقة تمنراست الجزائرية. وبغض النظر عن اختلاف وضعيات الدفن، فإن ما يلفت النظر هو اهتمام سكان طاسيلي القدامى بعملية الدفن وتزويد المدافن بالأثاث والأواني الفخارية والحُلي والأسلحة، وغيرها من المعدات التي كانت تحيط بالمتوفى في حياته الدنيا.
صورة لوضعية الدفن الجنينية في مقبرة قاستيل في الشرق الجزائري
تؤكد هذه الممارسات، وفقا للباحثين، أن مَن عاشوا على أرض طاسيلي كانوا بشرا يؤمنون بالحياة الآخرة بعد الموت، ولديهم شعائر جنائزية واضحة المعالم، ما يرجح وجود عقيدة دينية متعارف عليها بينهم. وقد فسَّر هؤلاء الباحثون الرسومات الغريبة في كهوف طاسيلي بأنها تجسيد لطقوسهم الدينية التي لم يُعرف تفاصيلها بالكامل بعد إلى اليوم.
الأِشولينية والموستيرية
لا تقف الكشوف بشأن طاسيلي عند العقائد الدينية. وعادة ما يطلق الأثريون مصطلح “الأشولينية” على الحقبة التي نجح فيها الإنسان القديم في صناعة الأدوات الحجرية بمختلف أشكالها في العصر الحجري القديم، وقد كان لسكان سيفار نصيب من تلك الحضارة وتصنيع تلك الأدوات.
أداة آشولية أو أشولينية وُجدت في منطقة طاسيلي الجزائرية
شهدت منطقة طاسيلي بعد ذلك مرحلة جديدة يطلق عليها الأثريون الحضارة الموستيرية، وهي من أهم حضارات العصر الحجري القديم الأوسط، وعلى عكس الأدوات الآشولية المفلطحة أو البيضاوية غالبا، كانت أدوات تلك المرحلة مصنوعة من الشظايا الحجرية الدقيقة المشذبة والمدببة الأطراف، وقد استخدمها البشر الذين عاشوا في هذه المنطقة كسكاكين ومحكات ومكاشط. وانتشرت الصناعة الموستيرية بشكل أساسي في آسيا وأوروبا، وبشكل أقل نسبيا في شمال أفريقيا كما في منطقة طاسيلي.
أداة موستيرية عُثر عليها في منطقة طاسيلي
تكشف الأبحاث أيضا أن البشر الأوائل الذين عاشوا في منطقة طاسيلي استخدموا أدوات تعود إلى الحضارة العاترية، وهي حضارة أو ثقافة تنتمي للعصر الحجري الوسيط تمركزت في منطقة شمال أفريقيا وامتدت من موريتانيا إلى مصر، وقد استخدم البشر الكوارتز والأحجار البركانية لتصنيع الأدوات في تلك المرحلة من حضارتهم.
بحارة الصحراء
لم تكن شعوب ما قبل التاريخ تعيش في عزلة عن بعضها بعضا، بل إن الشواهد الأثرية تؤكد أنه كان هناك تواصل بين مختلف المناطق، فقد وُجدت أدوات حجرية في أماكن بعيدة عن موقع تصنيعها، وهذا كان من أهم الأدلة على وجود نوع من التجارة القديمة.
وبالنسبة لشعوب الصحراء، التي تُعَدُّ مدينة سيفار الواقعة في طاسيلي واحدة منها، فقد كانت ظروف الطبيعة وقتها عاملا مساعدا على التبادل الحضاري، فالأنهار كانت تخترق الصحراء الكبرى لتربط بين الصحاري الشمالية والجنوبية والوسطى، ومن خلال التنقل النهري عرفت شعوب تلك المنطقة بعضها.
كانت تلك الاتصالات الحضارية والتجارية تتم عبر الأنهار على القوارب من أطلس إلى هقار، ومن الساحل الليبي حتى طاسيلي، فقد كان سكان منطقة طاسيلي بحارة ماهرين. وقد أظهرت النقوش الموجودة في كهوفهم، التي تجسد الكثير من القوارب، مدى شغف سكان مدينة سيفار بالأنهار والسفر عبرها وتصنيع القوارب وأهميتها في شكل حياتهم.
نقش حجري للحيوانات التي عاشت في طاسيلي قديما
يبدو أن طاسيلي التي نراها الآن صحراء قاحلة لم تكن كذلك في فترة ما قبل التاريخ، وأن التضاريس الصحراوية الموجودة حاليا التي تجعل التجول حتى داخل المنطقة صعبا كانت مروجا خضراء فيما سبق، وأن تلك السهول الخضراء كانت عامرة بالحيوانات مثل الزراف وأفراس النهر والغزلان والأبقار والأغنام، وقد أكد علماء الآثار الذين قضوا أعواما في دراسة منطقة طاسيلي أن سكان ما قبل التاريخ في مدينة سيفار الواقعة في طاسيلي كانوا يمارسون الرعي والزراعة.
هذا الانفتاح الذي عاشته منطقة طاسيلي على المناطق المجاورة والبعيدة عنها، والجو المناسب والأمان والسلام بين مختلف المجتمعات السكانية، جعل المنطقة جاذبة للقادمين من الجنوب بفعل امتداد الغابات الاستوائية، أو القادمين من الشمال، وبالتبعية اندمجت تلك الثقافات في بوتقة واحدة. ويُعَدُّ هذا تفسيرا منطقيا لبعض غرابة تلك النقوش الحجرية التي تحوي تنوعا بشريا، ووصفها البعض بأنها “لغز محير”، حيث كانت تجسد بشرا بملابس وتسريحات شعر متنوعة.
كان كل مَن يسافر في رحلات التجارة والتبادل الحضاري يعود إلى منطقة طاسيلي وينقش على الجدران ما شاهده في المناطق وكأنه ينقل للآخرين ثمار رحلاته، ما يجعلنا نشعر أن تلك النقوش التي تُظهِر بشرا مختلفين عن المعتاد رسمهم في كهوف طاسيلي تشبه إلى حدٍّ ما لوحات الاستشراق التي رسمها الأوروبيون.
في ضوء ذلك، تكتسب الكتابات والنقوش القديمة أهمية كبيرة لكونها ثروة تاريخية مهمة للباحثين، ولأنها تسجل حياة أصحابها وطرق معيشتهم وعلاقاتهم بجيرانهم، ورغم عدم خلو هذه الكتابات والنقوش القديمة من المبالغات والادعاءات أحيانا والتخيلات الغموض أحيانا أخرى، فإنها تُعَدُّ المصدر الرئيسي لتصوير عادات أصحابها وعقائدهم وأوضاعهم الاجتماعية.
ففي حين أن هؤلاء البشر القدامى لم يمتلكوا لغة مكتوبة، كانت الرسوم والنقوش هي البديل الذي مَكَّنهم من تسجيل حياتهم مصورة على الصخر، وهي رسوم لا يزال الباحثون والأثريون يبذلون وسعهم لسبر أغوارها واستكشاف غوامضها إلى اليوم.