هجرس بن سبأ رئيس جامعة ربة عمون الخاصة ) عاصمة مملكة تورينزا)
كان هجرس بن سبأ ، ومن باب المحبة كان يلقب ب”هجرو”، معروفًا بين االوسط الأكاديمي بابتسامته العريضة وكلماته المنمقة، لكنه في داخله كان نذلًا من الطراز الأول. لا يفرح إلا حين يرى غيره يتعثر، ولا يتقدم إلا على أنقاض من وثقوا به.
لا أحد يعرف بالضبط من أين حصل على شهادة الدكتوراة. ولكن من المؤكد بأنه حصل عليها من أحد مصانع الشهادات الصغيرة (بيع شهادات بجهد أكاديمي قليل، أو حتى بدون جهد أكاديمي، مع الحد الأدنى من البحث أو الإشراف، أو بمحاباة من نوع ما). ولكن لديه شهادة معتمدة لدرجة الدكتوراة، من وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، وعنوانها: ” فن استراتيجيات النزاهة، والمساءلة، والشفافية في الأوساط الأكاديمية”.
لم تعد النذالة في زمننا تُقاس بالغدر الكبير، بل بالمواقف الصغيرة التي تكشف عن غياب الضمير. وفي الجامعات الخاصة، حيث يفترض أن تزدهر روح التعاون والمنافسة الشريفة، صارت النذالة جزءًا من الحياة الجامعية اليومية، إن كانت هناك حياة جامعية في الأصل. وتم تعيينه كاستاذ مساعد في كلية ادارة الأعمال في جامعة راية عمون االخاصة.
تعيين الدكتور هجرو مساعدا للرئيس
ومع بداية السنة الدراسية تم تعيينه بمنصب اداري بمسمّى” مساعد الرئيس للشؤون الادارية”. في عرفه، المنصب ليس تكليفًا بل فرصة للترقية الاجتماعية. وقوله المأثور، بينه وبين نفسه:”الكرسي أولًا، والضمير لاحقًا”.
هو مساعد الرئيس ، وادخل مفهوم اسمه “فنّ النذالة التطبيقية“. فهو لا يُضيّع فرصة لإحراج موظف مجتهد أو تحطيم أستاذ مخلص، بل يعتبر ذلك تدريبًا عمليًا على “الولاء المؤسسي”. يُتقن لعبة التلاعب بالعقود، يرفع الرواتب بالوعود، ويخفض المكافئات المالية.
يفسر بأن سلطة اتخاذ القرار في الوظيفة، وخاصةً السلطة على الآخرين، تُضيف بُعدًا إضافيًا باعتقاد الموظف بأن وظيفته تُساهم في نمو المجتمع، والتنمية المستدامة للمؤسسة. يجب على الموظف أن يعتبر نفسه “مُحسنًا للمجتمع ومثالًا يُحتذى به في الفضائل الاجتماعية”. يطلب من الجميع روح الفريق، لكنه يحتكر كل نجاح لنفسه، وإذا فشل في شيء قال: “الكوادر قصّرت.” وعمل على تقييم مستوى رضا العاملين ، على مقياس النذالة: راضٍ جدًا، راضٍ إلى حد ما، غير راضٍ إلى حد ما، وغير راضٍ جدًا.
**
يجب على الدكتور هجرو أن يضع ترقيتع الأكاديمية نصب عينيه، الخطوة الأولى الترقية إلى رتبة أستاذ مشارك. و قرر تطبيق الخطة الأولى من خطط النذالة الأكاديمية، ” النذالة الإنبطاحية“. حين تتحول الزمالة إلى منافسة غير شريفة، التقرّب من الأساتذة والتظاهر بالمساعدة ، وعمل أبحاث مشتركة، ثم التخلي في اللحظة الحاسمة. سرقة أفكار زميل في مشروع مشترك، والمساعدة في التمويل المالي للمشروع. يأخذ الأوراق البحثية وينقلها من زميل ألى زميل آخر، ساعي بريد نذل. كلها مظاهر نذالة ، من الفئة الأولى من النذالة الإنبطاحية . ويعتذر عن حضور مناقشة الأوراق العلمية قبل ارسالها للنشر، بحجة ضغط العمل الهائل. يعض أصابع من ساعده، أي ينكر المعروف ومن يساعده.
هجرو يصبح عميد الكلية
ونظرا لغزارة انتاجه في مجال البحث العلمي، وحصوله على أكثر من ضعف النقاط المطلوبة، وبناءا على رأي المحكمين قرر مجلي العمداء الموقر ترقيته إلى رتبة استاذ مشارك، وتعيينه عميدا لكلية ادارة الأعمال.
يجلس خلف مكتبه كقنصل صغير، بمباركة القيصر العظيم. محاط بسكرتارية مرتبكة . النذل الجامعي لا يرى في المنصب تكليفًا بل غنيمة. يعرف نقاط ضعف الرئيس ويمارسها ، يُضحك الطلاب، ويُرهق أعضاء التدريس والمعيدين، ويُرعب الإداريين. في هذه الجامعة النذلة، لا تُمنح المناصب بالكفاءة، بل بـ”اللياقة النذلية”.
النذالة الجامعية تُربّي الطالب على التميز الفردي بأي ثمن. وحين يغيب الإحساس بالمسؤولية الجماعية، يصبح الغدر وسيلة ذكية، لا خطأ أخلاقيًا. يدفع الجميع الثمن، الطلاب يفقدون روح الفريق، والأساتذة يصابون بالإحباط، والمجتمع يتخرّج منه جيل يعرف كيف ينجح، لكنه لا يعرف كيف يكون إنسانًا، لقد تشرب النذالة في جامعته النذلة، والأخطر أن النذالة الأكاديمية تتحول لاحقًا إلى نذالة مهنية .
فن النذالة الأكاديمية: يصنع العميد مجده من تعب الآخرين، يجيد فن المراوغة، وفن السخرة، و لكنه آمن قانونيًا وأدبيًا. أوضح لهم العميد “هجرو”في مجلس الكلية بأن عليهم التركيز على البحث العلمي، لا يجدد عقد أحدكم إن لم ينشر على الأقل بحثين. زملائي الكرام، “ليس لديّ وقت لحكّ مؤخرتي”، ( لا حياء ولا دخان جلّة). كانت مقدمة للانتقال إلى الخطة الثانية من خطط النذالة الأكاديمية، ” الذكاء النذلي”. النذل الأكاديمي ذكيّ، لا يُواجهك مباشرة، بل يتركك تغرق في سوء الظن بنفسك. يقول لك: “أنت المميز الوحيد”. هل يُولد النذل الأكاديمي نذلًا، أم أن الكرسي هو الذي يُفرز النذالة كغاز سام؟!
النذل الأكاديمي لا يشعر بالحيرة وعدم اليقين بشأن ما يجب فعله حيال مشكلة أو سؤال ما، وخاصة عندما يكون غير متأكد من الإجابة على السؤال. بدأ الكثير من أعضاء التدريس بحك رؤوسهم، والنظر لبعضهم البعض، ويتساءلون “ماذا نفعل”؟. أجاب أحد أعضاء هيئة المدرسين، من المخضرمين، فقط يريد إدراج اسمه في كل بحث ينشر من قبلكم أيها السادة.
من يتقن لعبة “خذ تعب غيرك وانسبه لنفسك”، فذاك يُمنح درجة “دكتوراه فخرية في اللؤم الإداري، والنذالة الأكاديمية”.
هجرو يصبح نائبا للرئيس
ونظرا لغزارة انتاجه في مجال البحث العلمي، وحصوله على أكثر من ثلاثة أضعاف النقاط المطلوبة، في مدّة تراوحت حوالي الثلاث سنوات، وبناءا على رأي المحكمين، قرر مجلس العمداء الموقر ترقيته إلى رتبة استاذ.
ومع بداية العام الدراسي تم تعيين الأستاذ الدكتور هجرو نائبا للرئيس لشؤون التطويرالأكاديمي ، والإداري، والجودة. .
جلس على كرسيه الفاخر المصنوع من الجلد الخالص، يُعتبر الكرسي مصدر قوة وسلطة، والمهم أنه يدور يمينا ويسارا، وحتى 360 درجة. تماما كدوران درجات نذالته.
لا يريد أي كراسي آخر في مكتبه، لا يرغب بالمزاحمة، فقط سمح ببعض المقاعد الثنائية والثلاثية، وأن لا تكون من الجلد. يُنظر إلى أقمشة الجلد الطبيعي على أنها علامة على الرفاهية والرقي، وتضفي لمسة من الفخامة على وجوده، والتستر على نذالته.
**
يجب أن ينتقل إلى الخطة الثالثة من النذالة الأكاديمية، والتي تدعى ” النذالة الناعمة”، تُمارس بابتسامة ولباقة، لكنها تزرع انعدام الثقة بين الاداريين، وأعضاء التدريس، الطلبة. يجب أن أزرع أذرع وأرجل وعيون وآذان وأبواق، حتى أتمكن من الوصول إلى أعلى السلم الهرمي الاداري ، والأكاديمي، لن أكون مثلك يا هامان، سوف أعمل على إغراق فرعون.
يقتبس حكمًا عن القيادة الفاضلة من الإنترنت، قبل كل اجتماع. تتحول المجالس الأكاديمية إلى طقوس مديح، وكم أن الجامعة محظوظة بوجوده. يُرسل لك رسالة تهنئة في الصباح، ويوقّع قرار فصلك في المساء ، باسم “تطوير الجودة”!. أو فقط انتظر القرار النهائي.
ثم يُصدر القرار بعد شهر، لتكتشف أنك لم تُفصل فقط، بل استُبدلت بسطر في بريد الكتروني رسمي أُرسل دون توقيع. أو أن تسمع الجملة الشهيرة “سنتابع الموضوع” كأنها آية منزّلة. إنه فنان النذالة الأكاديمي الرسمية، وحاصل على دكتوراه فخرية في الانبطاح مع مرتبة الشرف.
حين لا يُنشَّأ الإنسان على قيم الوفاء والصدق. ومنها ما يرتبط ببيئة اجتماعية تُشجع على الوصولية والانتهازية دون اعتبار للوسائل. وهناك أيضًا الطمع وحب الذات، إذ تدفع الأنانية أصحابها إلى خيانة من أحسن إليهم متى ما اقتضت المصلحة. وفي بعض الحالات، تكون النذالة نتاجًا للجبن، فالنذل لا يواجه ولا يعترف، بل يتخفّى خلف المكر والخداع.
**
قرر مالكين شركة الجامعة ببناء ثلاث مباني لكليات جديدة، وكذلك بناء سكن للطالبات بسعة ثلاثين غرفة. ينشأ تضارب المصالح عندما تؤثر مصالح الشخص الخاصة على قدرته على التصرف بنزاهة وبما يخدم مصالح مؤسسته أو المصلحة العامة. قد يكون رئيس الجامعة في وضع يسمح له بالتأثير على عملية المناقصة، مما قد يؤدي إلى حصوله على ميزة غير عادلة.
تناهى إلى مسامع الكتور هجرو بأن رئيس الجامعة، سطّام بني الأحمر ، يقوم ببناء فيلا تزامنا مع بناء أبنية الجامعة. هدية سقطت بين يديه من السماء، إساءة استخدام المنصب. النَّذْل يتصف بالدناءة وانعدام الأخلاق و نكران الجميل وخيانة الأمانات، وهو يفتقر للشرف، ويجيد الطعن في الظهر. لكنه نذل من الداخل، لا يرى في الناس سوى سلالم يصعد بها.
كان رئيس الجامعة يحتفظ بدفتر ملاحظات خاصة به، جلد أسود بحواف ذهبية ، يكتب فيه كل شيء يخصه، من مواعيد الإجتماعات ، والمصروفات على بناء الفيلا الجديدة وتكاليفها، يجمل هذا الدفتر في شنطته السوداء المصنوعة من الجلد الفاخر.
في إحدى الإمسيات، تأخر لمراجعة الموازنة، حيث كان عليه أن يعرضها على مجلس الأمناء في صباح اليوم التالي. هبت عاصفة، وأبرقت السماء وأرعدت ، توسل سائقه بأن عليهما أن يغادرا فورا. مشواري طويل أيه الرئيس، دعنا نذهب الآن قبل اشتداد الإعصار. وفي عجلة من أمره جمع أوراقه، وانطلق مع سائقه للبيت.
وفي صباح اليوم التالي، دخل مكتبه وبدأ البحث عن دفتر ملاحظاته، لم يجده ، اختفى الدفتر خاصّته. وعندما فتح درج مكتبه، وجد قصاصة ورق صغيرة مطوية ومُجعّدة ، مكتوب عليها بثلاث كلمات فقط: “ما زلت هنا.” كان هجرو يُخفي خطة: أن يُقضي على الرئيس سطّام بالضربة القاضية.
طلب الكتور سطّام من سكريتيرته أن تحضر له فنجان قهوة، وأثناء ذلك، تلقّى اتصالًا من الإدارة العليا :”تم قبول استقالتك دكتور سطّام بني الأحمر”.
- ولكن لم أقدم استقالتي.
- ربما نسيت يا دكتور سطّام ، بأنه عندما استلمت قرار تعيينك كرئيس للجامعة باليد اليمنى، وأعطيتنا باليد اليسرى قرار استقالتك ، ممهورا بتوقيعك، وما علينا سوى وضع التاريخ. الكراسي ما تثبت إلا لمن يجلس عليها بضمير، يا دكتور سطّام.
النذالة في الجامعات الخاصة، وجه آخر للأنانية الحديثة. خرج الدكتور سطّام مطأطأ الرأس، أدرك متأخرًا أن سؤ الأمانة طريق قصير، و لكنه يؤدي دائمًا إلى سقوطٍ طويل. كانت تلك بند من النذالة الأكاديمية بالضربة القاضية، من الفئة الأولى العليا.
مجلس الأمناء
الجامعات الخاصة عبارة عن استثمارات عامة، لذا عليها أن تحقق عوائد استثمارية من زبائنها، وفي نهاية العام، لا تنظر إلى ماحققته من انجازات أكاديمية، هذا ليس الهدف، هدفها الوحيد زيادة رصيدها المالي في البنوك. وترفع شعارها إلى أن تظل وفية، ثابتة، ومركزة على رؤيتها ورسالتها وقيمها، وأهدفها المؤسسية، كما هي معلّقة على جدران الجامعة، المصبوغة باللونين الأبيض والأزرق، وكذلك رايتهم وشعارهم، نفس الألوان، من النيل إلى الفرات.
مبادئ الإنفاق التنافسي والمكاسب التنافسية تُصرّ على “القدرة التجارية” لدى الرؤساء التنفيذيين للجامعات الخاصة، ومن ثمّ النطاق الواسع من الواجبات والصلاحيات العملية التي تُسند إليهم. وتحت هؤلاء القادة ذوي المعرفة ” مجلس الأمناء”. يتم اختيارهم لسهولتهم الإدارية، وجدارتهم، وكفاءتهم كمتحدثين عاميين وبرلمانيين، ومرونة قناعاتهم، وولائهم الراسخ للجامعة، ومقابل مرتّبات شهرية. إنهم غير ضروريين، إلا لرعاية الاحتياجات وحالات الطوارئ التي قد يواجهونها. إن وجود المجلس مجلس الأمناء يُنشئ بلا مبرر.
**
هجرو يصبج رئيس الجامعة
جلس رئيس الجامعة الجديد، هجرس بن أبيّ بن سلّول ،على كرسي العرش الجلدي في مكتبه الفاخر. .يرتدي بدلة غالية الثمن ليغطي فقر روحه، وربطة عنق ضيقة كأخلاقه. يظن أن الكرسي هو الامتحان النهائي للإنسانية، وأن النجاح فيه يكون بقدر ما يستطيع أن يُذلّ من تحته دون أن يُكسر قلمه الفاخر. من المؤكد أن هذا النوع من الرؤساء لا يحتاج إلى تاريخ أكاديمي ليُذكر، بل إلى مرجع أخلاقي ليُغفر له.
هذا النوع من الرؤساء لا يحتاج إلى تخطيط استراتيجي، لأن عنده استراتيجية واحدة فقط: “ما يُرضي المالك يُنفّذ، وما يُرضي الناس يُؤجَّل.”
هو لا يبتكر، لا يُلهم، لا يبني. بل يجيد استخدام جمل محفوظة من كتب الإدارة القديمة مثل “نحن فريق واحد” و“أبوابنا مفتوحة”، بينما أبوابه موصدة بالمفتاح وقلوب العاملين مقفلة بالحسرة. يحب الاجتماعات الطويلة التي لا تُنتج شيئًا، والقرارات المفاجئة التي لا يفهمها أحد، ثم يتفاخر بأنه “يحافظ على الانضباط” وكأنه يُدير معسكرًا لا جامعة.
لا يهمه الطالب إلا بقدر ما يدفع. يتحدث عن “رسالة التعليم”، بينما يبيع الشهادة على شكل أقساط شهرية مع عروض موسمية. تراه في حفل التخرج يتحدث عن المستقبل الواعد، بينما هو نفسه لا يرى مستقبلًا لغير نذالته.
يظن نفسه قائدًا ملهما، لكنه في الحقيقة موظف علاقات عامة يرتدي بدلة قرارات باردة. قد يخدع الناس بعض الوقت، لكنه لا يستطيع أن يخدع التاريخ؛ توجد ملفٍّات سميكة من المظالم والشكاوى في أدراج مكتبه، بينما يجادل بشعار “النجاح عندي يبدأ حين تنتهي إنسانيتك”.
الابتسامة المسمومة
تبدأ الحكاية عادة بابتسامة، يدخل الأستاذ أو الموظف إلى مكتبه طالبًا مساعدة أو حقًّا له، فيُقابله الرئيس بابتسامة الدبلوماسي، ابتسامة مدروسة تحتوي على 20% نفاق و80% نذالة. يربّت على كتفه، يعده خيرًا، ثم يوقع القرار المعاكس بعد خروجه بثوانٍ. فهو لا ينام ليله، اذا لم يمارس الخذلان، النذالة بالنسبة له رياضة فكرية ومهارة إدارية.
يبتسم للموظف الذي ينوي فصله، ويصافح الأستاذ الذي سيُهمّشه لاحقًا،
فهو لا يعرف كيف يقود الناس، بل فقط كيف يستنزفهم بابتسامة نذالة إدارية باهته. يُدير بالابتسامة ويخون بالقرار، ويترك خلفه جيلًا من الأكاديميين اليائسين والطلاب المصدومين. من يستطيع أن يبتسم لخصمه أثناء توقيع قرار فصله، يُمنح رتبة الشرف الأكاديمية بدرجة” نذل أول”، وحاز عليها هجرو بجدارة.
الخطابات البراقة والقرارات الباردة
تراه في المؤتمرات يعلو المنبر متحدثًا عن “القيادة الملهمة” و”تحفيز الشباب”، بينما في الواقع يحفّزهم على الاستقالة. يكتب على لافتات الجامعة “نحن عائلة واحدة“، ثم يفصل نصف العائلة في نهاية االعام الدراسي. يُتقن فن الجمع بين شعارات التواضع وسلوك المستبدين، فيتحول المكتب الأكاديمي إلى عرشٍ فرعوني نذل تحرسه السكرتيرة بابتسامة مرتبكة.
أسلوب الإدارة الدكتاتوري النذل على جميع المستويات؛ ينهي رأي أعضاء هيئة التدريس في المسائل التي تخصهم؛ يوقف الاحتيال الأكاديمي، والانتحال. ينهي الإنضباط الإداري والمتعلق بالتغيب عن الدراسة، مع عدم الانضباط المحاسبي.
يكتب في التقارير ما لم يحدث، ويُحمّل الآخرين تبعات ما صنعته يداه.
يدعو إلى “تحفيز الكوادر” وهو يقطع رواتبها، ويطالب بـ“الشفافية” بينما يُخفي كل شيء خلف الأختام والمجاملات. ولو صادفته وهو يتحدث عن “قيم النزاهة”، ستشعر للحظة أن النذالة أصبحت مادة حرّة تُدرَّس لجميع طلاب الجامعة.
فن النذالة المؤسسية Top of Form
في نظره، الطالب ليس عقلًا يُنمى، بل فاتورة تُسدَّد. يتحدث عن “رؤية الجامعة ورسالتها”، بينما يوقّع عقود الدعاية أكثر مما يوقّع شهادات التخرج. وعندما يتحدث عن “تطوير التعليم”، يقصد تطوير طريقة تحصيل الأقساط. رئيس الجامعة النذل هو نتاج مرحلة اختلطت فيها الرسالة الأكاديمية بالميزانية، وذابت فيها القيم في قهوة الاجتماعات .Bottom of Form
النذالة في الجامعات الخاصة ليست مجرد سلوك طلابي سيئ، بل انعكاس مرآة نذالة القائمين على إدارتها، وعلى رأسهم رئاسة الجامعة النذلة. والجامعة التي تفشل في تربية ضمير طلابها، مهما كان مبناها جميلًا ومناهجها متقدمة، فإنها في الحقيقة تُخرّج نذالةً بأعلى شهادة ممكنة. ولتحقيق ذلك ، وتأكيدا عليه ، أصدر رئيس الجامعة ، الفرمان التالي، والذي تلي شفهيا على جميع العاملين ، من أكادميين ، أو اداريين ، والعمل على تطبيق ما جاء في طيه:
رسالتنا: المهم تنجح، مش مهم كيف
رؤيتنا: ادفع قسطا تنجح فصلا
مبدئنا : الغاية تبرر الوسيلة
قيمنا: الطالب زبون، والزبون دائما على حق
منهجنا: النذالة أساس معيار النجاح
**
النذالة ليست شجاعة ولا ذكاء
مع نهاية العام الدراسي، وبدء تجديد عقود أعضاء التدريس، والعاملين. جلس الأستاذ الدكتور هجرس مع نفسه، ظن نفسه أنه يمارس الدهاء، لكن الحقيقة أنه يمارس النذالة، التي هي ذكاء بلا شرف.
أخذ قراره: عدم تجديد العقود لكثير من أعضاء التدريس، والذين له خدمة ما يقارب خمس وعشرين سنة وأكثر. والسبب بأن رواتبهم عالية، وبراتب أحدهم يستطيع تعيين ثلاثة أشخاص. بما لو ذهب إلأى سوق الجمعة، سيجلب عشرة بدلا من ثلاثة. ما أصعب أن ترى عيني رجل أن تدمع، لم يبقى على حصوله على الضمان الإجتماعي إلا سنتان. نعم سنتان لا غير، جميع خدمته في هذه الجامعة ” جامعة راية عمون الخاصة”. ولكن الله خير الرازقين.
**
فرك يجيه فرحا بهذا النصر المؤزر، وهذه المجزرة التي قضت على خيرة أعضاء التدريس، انه مبدأ ” FIRE and HIRE ” الأمريكي. طلب من السكرتيرة فنجان قهوة بدون سكر، يكفي حلاوة القرار، ومع الرشفة الأولى ، أخبرته السكرتيرة بأنها تلقت اتصالا من وزارة التعليم العالي بوجود جلسة طارئة جدا، بعد ربع ساعة، وعليه الحضور للضرورة والأهمية. القصوى.
جلس بجانب السائق، وقال له: أسرع. بدا السائق بزيادة السرعة. ثم قال للسائق بعصبية : “شد أكثر”. ومن زاوية مخفية، من لا مكان ، خرجت سيارة جمع القمامة بحجمها المميز، كانت الضربة قاسية وشبه مميتة من الجانب الأيمن. تم نقل الدكتور هجرس إلى المستشفى، وبقي فيه ثلاثة أشهر، خرج بعدها على كرسي متحرك بلونين ، أبيض و أزرق، رقبته مائلة نحو اليمين، و استعمال فوط صحية الحجم العائلي الكبير. ولأول مرة في حياته، عرف أن النذالة تربح يومًا، لكنها تُفلس عمرًا. ولأن التاريخ لا ينسى، ولا يرحم، فسيبقى اسمه محفورًا في ذاكرة العاملين لا كقائدٍ ملهم، بل كدرس حيّ في النذالة .