الحجاج بن يوسف الثقفي

يعتبر الحجاج من الشخصيات التاريخية التي حفرت إسمها في كتب التاريخ منذ ولادته وحتى مماته.  رجلٌ من بني ثقيف، لم يكن تيمور ابنا لأمير أو لملك, ولم يرث عرشا أو شعبا أو جيشا, كما هو الحال مع الاسكندر المكدوني, ولم يكن خريج كلية ساندهرست الحربية، كما هو وضع قادة الجيوش العربية.  فقد صنع العرش والجيش والشعب بنفسه. احتل الحجاج بن يوسف الثقفي مكانة متميزة بين أعلام الإسلام، ويندر أن تقرأ كتابًا في التاريخ أو الأدب ليس فيه ذكر للحجاج الذي خرج من سواد الناس إلى الصدارة بين الرجال وصانعي التاريخ بملكاته الفردية ومواهبه الفذة في القيادة والإدارة. وضاعت أعمال الحجاج الجليلة بين ركام الروايات التي تروي مفاسده وتعطشه للدماء، وإسرافه في انتهاكها، وأضافت بعض الأدبيات التاريخية إلى حياته ما لم يحدث حتى صار شخصية أسطورية بعيدة كل البعد عن الحقيقة والواقع.

وعلى قدر شهرة الحجاج كانت شهرة ما نُسب إليه من مظالم  صورة مجسمة للظلم، ومثالا بالغا للطغيان، وأصبح ذكر اسمه شخصية أسطورية يستدعي في الحال معاني الظلم والاستبداد، واذا نظرنا إلى الواقع التاريخي وبين ما نعيشه في وقتنا الحاضر أرى بأنه ولي مقارنة مع حكام اليوم.

فصاحة الحجاج

كان مولد الحجاج في  الطائف (41 هـ = 661م)، ونشأ بين أسرة كريمة من بيوت ثقيف، وكان أبوه رجلا تقيًّا على جانب من العلم والفضل، وقضى معظم حياته في الطائف، يعلم أبناءها القرآن الكريم دون أن يتخذ ذلك حرفة أو يأخذ عليه أجرا.

حفظ الحجاج القرآن على يد أبيه.  ثم اشتغل وهو في بداية حياته بتعليم الصبيان، شأنه في ذلك شأن أبيه. وكان لنشأة الحجاج في الطائف أثر بالغ في فصاحته؛ حيث كان على اتصال بقبيلة هذيل أفصح العرب، فشب خطيبا مفوهاً. حتى قال عنه أبو عمرو بن العلاء: “ما رأيت أفصح من الحسن البصري، ومن الحجاج”. وجميع فقهاء اللفة أجمعوا بأنه لم يلحن قط.

 

خطبته في الكوفة

لبى الحجاج أمر الخليفة عبد الملك بن مروان،  وأسرع إلى الكوفة في سنة (75هـ = 694م) إلى الكوفة، وفي أول لقاء معهم خطب في المسجد خطبة عاصفة وخطبة الحجاج هذه مشهورة متداولة في كتب التاريخ، ومما جاء فيها: “……. وأيم الله لأَلْحُوَنَّكُم لَحْوَ العود ، ولأقرعنكم قرع المروة، ولأعْصِبَنكمْ عَصْبَ السّلَمَة ، ولأضربنكم  ضرب غرائب الابل …”.

 ولننظر إلى فصاحته وبلاغته:

( لأَلْحُوَنَّكُم لَحْوَ العود): لحا الشجرةَ يَلْحُوها لَحواً قَشَرها، استعاره من قِشر العود، واللِّحاء ما على العود من القِشر, اي يمكن القول بأنه يعني في وقتنا الحاضر “لأسلخ جلدك عن عظمك”.

(ولأقرعنكم قرع المروة ): المروة “بسكون الراء” ، الحجارة البيض البراقة ، تقدح منها النار. وكنابة عن الضرب المستمر غير المتوقف، مثله كمثل من يريد أن يشعل ناراَ بقدح المروة.

(ولأضربنكم ضرب غرائي الابل) :  ويروى “أضْرِبْهُ ضَرْبَ غَريبة الإبِلِ” وذلك أن الغَريبة تزدحم على الحِيَاض عند الوِرْد، وصاحب الحوض يَطْرُدها ويضربها بسبب إبله.

لأعْصِبَنكمْ عَصْبَ السّلَمَة): وجاء في قواميس اللغة العربية:

  • والعَصْبُ: الطيُّ الشديدُ. وعَصَبَ الشيءَ يَعْصِـبُه عَصْباً: طَواه
    ولَواه؛ وقيل: شَدَّه.
    والعِصابُ والعِصابةُ : ما عُصِبَ به .وعَصَبَ رأْسَه ، وعَصَّبَه تَعْصيباً:شَدَّه ؛ واسم ما شُدَّ به:العِصابةُ. السَّلَمَةُ : شجرة من العضاء ، ذاتُ شَوكٍ ، وَوَرقهُا القرَظُ الذي يُدْبَغُ به الأَدَمُ ، ويَعْسُر خَرْطُ ورَقها ، لكثرة شوكها ، فتُعصَبُ أغْصانُها ، بأن تُجمَعَ ، ويُشَدَّ بعْضُها إلى بعض بحَبْلٍ شَدَّاً شديداً ، ثم يَهْصُرها الخابطُ إليه ، ويَخْبِطُها بعَصاه ، فيتناثر ورقُها للماشية ، ولمن أراد جمعه. ؛ وقيل : إنما يُفْعَلُ بها ذلك إذا أرادوا قطعها ، حتى يُمْكِنَهم الوصول إلى أَصله .
  • سُلَّمة (اسم والجمع سُلَّمات). مسند للقدم في الصّعود أو الهبوط. وهو السُلَم. وكناية عن عصب وشد وثاق درجات السلم بقوة.

وفي خطبة أخرى له في أهل الكوفة:

(يأهل الكوفة إن الفتنة تلقح بالنجوى وتنتج بالشكوى وتحصد بالسيف أما والله إن أبغضتموني لا تضروني وأن أحببتموني لا تنفعوني وما أنا بالمستوحش لعدواتكم ولا المستريح إلى مودتكم زعمتم أني ساحر وقد قال الله تعالى ولا يفلح الساحر…).

 خطبته في البصرة:
(….أيها الناس من أعياه داؤه فعندي دواؤه ومن استطال أجله فعلي أن أعجله ومن ثقل عليه رأسه وضعت عنه ثقله ومن استطال ماضي عمره قصرت عليه باقيه إن للشيطان طيفا وللسلطان سيفا…).

خطبته بعد وقعة دير الجماجم:
( يأهل العراق إن الشيطان قد استبطنكم فخالط اللحم والدم والعصب والمسامع والأطراف والأعضاء والشغاف ثم أفضي إلى المخاخ والأصماخ ثم ارتفع فعشش ثم باض وفرخ فحشاكم نفاقا وشقاقا وأشعركم خلافا اتخذتموه دليلا تتبعونه وقائدا تطيعونه ومؤامرا تستشيرونه فكيف تنفعكم تجربة أو تعظكم وقعة أو يحجزكم إسلام أو ينفعكم بيان؟؟؟…).
وخاطب أهل الشام:

(… يأهل الشام إنما أنا لكم كالظليم الرامح عن فراخه ينفي عنها المدر ويباعد عنها الحجر ويكنها من المطر ويحميها من الضباب ويحرسها من الذئاب يأهل الشام أنتم الجنة والرداء وأنتم العدة والحذاء..) .

إصلاحات الحجاج في العراق

قام الحجاج خلال  ولايته على العراق بجهود إصلاحية عظيمة، ولم تشغله الفترة الأولى من ولايته عن القيام بها، وشملت هذه الإصلاحات النواحي الاجتماعية والصحية والإدارية والزراعية ، ومن أعماله على سبيل المثال:

  • بناء مدينة واسط بين الكوفة والبصرة، واختار لها مكانا مناسبا، واستغرق بناؤها ثلاث سنوات، واتخذها مقرا لحكمه.
  • إصلاح حال الزراعة في العراق بحفر الأنهار والقنوات، وإحياء الأرض الزراعية، واهتم بالفلاحين، وأقرضهم، ووفر لهم الحيوانات التي تقوم بمهمة الحرث؛ وذلك ليعينهم على الاستمرار في الزراعة.
  • قام ببناء الجسور للأنهار ، وأنشأ عدة صهاريج بالقرب من البصرة لتخزين مياه الأمطار وتجميعها لتوفير مياه الشرب لأهل المواسم والقوافل، وكان يأمر بحفر الآبار في المناطق المقطوعة لتوفير مياه الشرب للمسافرين.
  • أمر بعدم النوح على الموتى في البيوت، وبقتل الكلاب الضالة، ومنع التبول أو التغوط في الأماكن العامة، ومنع بيع الخمور.
  • كان يدقق في اختيار ولاته وعماله، ويختارهم من ذوي القدرة والكفاءة، ويراقب أعمالهم، ويمنع تجاوزاتهم على الناس، وقد أسفرت سياسته الحازمة عن إقرار الأمن الداخلي والضرب على أيدي اللصوص وقطاع الطرق.

أعمال الحجاج على مستوى الدولة

  • عمل للحجاج على تعريب الدواوين إلى اللغة العربية.
  • سك العملة الخاصة للدولة، وضبط معيارها.
  • ومن أجلِّ أعماله تنقيط حروف المصحف الشريف وإعجامه بوضع علامات الإعراب على كلماته، وذلك بعد أن انتشر التصحيف؛ ونُسب إليه تجزئة القرآن، ووضع إشارات تدل على نصف القرآن وثلثه وربعه وخمسه، ورغّب في أن يعتمد الناس على قراءة واحدة، وأخذ الناس بقراءة عثمان بن عفان، وترك غيرها من القراءات، وكتب مصاحف عديدة موحدة وبعث بها إلى الأمصار.
  • كانت فيه سماحة إعطاء المال لأهل القرآن.
  • أعمال الحجاج الحربية
  • ولا يختلف أحد في أنه اتبع أسلوبا حازما مبالغا فيه، وأسرف في قتل الخارجين على الدولة، ولكن هذه السياسة هي التي أدت إلى استقرار الأمن في مناطق الفتن والقلاقل التي عجز الولاة من قبله عن التعامل معها.
  • تمكن الحجاج من إخماد فتنة الخوارج والقضاء على ابن الجارود وأصحابه. وما كاد الحجاج يقضي على فتنة الخوارج حتى شبت ثورة عارمة دامت ثلاث سنوات (81-83 هـ = 700-702م) بزعامة“عبد الرحمن بن الأشعث” زعزعت استقرار الدولة، وكادت تعصف بها، وتمكن من سحق عدوه في معركة دير الجماجم سنة (83 هـ = 702م)، والقضاء على هذه الثورة وعلى قائدها.
  • تطلع الحجاج بن يوسف الثقفي بعد أن قطع دابر الفتنة، وأحل الأمن والسلام إلى استئناف حركة الفتوحات الإسلامية التي توقفت بسبب الفتن والثورات التي غلت يد الدولة،. ثم عاود الحجاج سياسة الفتح، واختار لها القادة الأكفاء، مثل قتيبة بن مسلم الباهلي، الذي ولاه الحجاج خراسان، وعهد إليه بمواصلة الفتح وحركة الجهاد؛ فأبلى بلاء حسنا، ونجح في فتح العديد من النواحي والممالك والمدن الحصينة حتى وصل على حدود الصين المتاخمة لإقليم ما وراء النهر وانتشر الإسلام في هذه المناطق وأصبح كثير من مدنها مراكز هامة للحضارة الإسلامية مثل بخارى وسمرقند. وبعث الحجاج بابن عمه محمد بن القاسم الثقفي لفتح بلاد السند، وكان شابا صغير السن لا يتجاوز العشرين من عمره، ولكنه كان قائدا عظيما موفور القدرة، نجح خلال فترة قصيرة لا تزيد عن خمس سنوات في أن يفتح مدن وادي السند، وكتب إلى الحجاج يستأذنه في فتح قنوج أعظم إمارات الهند التي كانت تمتد بين السند والبنغال فأجابه إلى طلبه وشجعه على المضي، وكتب إليه أن “سر فأنت أمير ما افتتحته”، وكتب إلى قتيبة بن مسلم عامله على خراسان يقول له: “أيكما سبق إلى الصين فهو عامل عليها، ووصلت رايات الإسلام إلى حدود الصين والهند.

 

توفي الحجاج بمدينة واسط في (21 من رمضان 95هـ = 9 من حزيران 714م). ولما مات لم يترك فيما قيل إلا 300 درهم.

Leave a Comment