الجزء الثالث الإعجاز في ﴿وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ﴾

الجزء الثالث

 ﴿وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ﴾

ورد في معاجم اللغة العربية الغاسِق: اللَّيل إذا دخل وغاب شفقُه واشتدّت ظلمتُه. بَلَغَ الغَاسِقُ تَمَامَهُ : القَمَرُ إذا أظلم ودَخَلَ فِي الخُسُوفِ.  عين غاسِقة: إذا أظلمت ودمعت. وقب: دخل. وقَب اللّيلُ :دَخَل في كُلِّ شيءٍ وشمله بظلامه. وقب الظّلامُ: جاء وأقبل، دخل وانتشر. وَقَبَتِ الشَّمْسُ : غَابَتْ.

﴿مِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ﴾ هو معطوف على ﴿مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ﴾ من باب عطف الخاصِّ على العامِّ؛ لأن الغاسق من مخلوقات الله عز وجل.

ويقول الشاعر:
إِنَّ هَذَا اللَّيْلَ قَدْ غَسَقَا … وَاشْتَكَيْتُ الْهَمَّ وَالْأَرَقَا

 وَقَالَ آخَرُ:
يَا طَيْفَ هِنْدٍ لَقَدْ أَبْقَيْتَ لِي أَرَقًا … إِذْ جِئْتَنَا طَارِقًا وَاللَّيْلُ قَدْ غَسَقَا
ومن الصواب أن يقال: إن الله أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يستعيذ ويعتصم بالله إذا غربت الشمس، وإذا أقبل الليل بظلمته ، ومن شرّ مظلم إذا دخل، وهجم علينا بظلامه. ومنه قوله تبارك وتعالى:﴿ أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ ﴾ (الإسراء-78).
من شر الليل إذا اشتد ظلامه، وأسدل ستاره على كل شيء واختفى تحت جنحه ما كان ظاهرا. ومن شأن الليل عند ما يكون كذلك، أن يكون مخيفا مرعبا، لأن الإنسان لا يتبين ما استتر تحته من أعداء. من شر ما يكون في الليل، حين يغشى الناس، وتنتشر فيه كثير من الأرواح الشريرة، والحيوانات المؤذية ومن شر ليل شديد الظلمة إذا دخل وتغلغل، وما فيه من الشرور. وأعتصم بالله من الشرور التي تظهر في الليل من دواب ولصوص. ولأن في الليل تخرج السباع من آجامها ، والهوام من أماكنها ، وينبعث أهل الشر على العبث والفساد.

والنجم إذا أفل غاسق، والقمر إذا خسف واسود وأظلم. ، لأن القمر آية الليل ، غاسقًا لأن سُلطانه يكون في الليل.  فقد جاء في الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام أن النبي ﷺ أَرَى عائشةَ القمرَ وقال: “يَا عَائِشَةُ، اسْتَعِيذِي بِاللَّهِ مِنْ شَرِّ هَذَا؛ فَإِنَّ هَذَا هُوَ الْغَاسِقُ إِذَا وَقَبَ”. أن أهل الريب يتحينون وجبة القمر، أي سقوطه وغيوبته. لأنه أنسب لما يجيء بعده من السحر، لأنه أكثر ما يكون عندهم في آخر الشهر. ويقول الشاعر:
أَرَاحَنِي اللَّهُ مِنْ أَشْيَاءَ أَكْرَهُهَا … مِنْهَا الْعَجُوزُ وَمِنْهَا الْكَلْبُ وَالْقَمَرُ
هَذَا يَبُوحُ وَهَذَا يُسْتَضَاءُ بِهِ … وَهَذِهِ ضِمْرِزٌ قَوَّامَةُ السَّحَرِ

ولم يخصص بعض ذلك بل عمّ الأمر بذلك، فكلّ غاسق، ، وكذلك النجوم لا تضيء ، إلا في الليل.  وكانت العرب تقول : الغاسق : سقوط الثريا ، بأن الأسقام والطواعين تكثر عند أفول الثريا وقوعها ، وترتفع عند طلوعها. وقيل الغاسق : الحية إذا لدغت وكأن الغاسق نابها ؛ لأن السم يغسق منه ؛ أي يسيل. ووقب نابها : إذا دخل في اللديغ . وَقِيلَ: الْغَاسِقُ: كُلُّ هَاجِمٍ يَضُرُّ، كَائِنًا مَا كَانَ، مِنْ قَوْلِهِمْ: غَسَقَتِ الْقُرْحَةُ: إِذَا جَرَى صَدِيدُهَا. وكل شيء أسود فهو غسق .
الأشياء السيئة التي  تحدث بعد الظلام

في الليل، يكون الناس أكثر عرضة لخطر الانخراط في سلوك ضار مثل وجرائم العنف وتعاطي المخدرات. تحدث أكثر حالات الانتحار، من الناحية الإحصائية، خلال ساعات الليل. كما أن جرائم القتل، والسرقة  وغيرها من جرائم العنف أكثر شيوعًا في الليل، وكذلك مخاطر الاستخدام غير المشروع أو غير المناسب لمواد مثل الكحول والقنب والمواد الأفيونية. ويكون الطعام الذي يتم تناوله ليلا غير صحي، حيث يحتوي الكثير من الكربوهيدرات والدهون،  والأطعمة المصنعة وغالبًا ما نستهلك سعرات حرارية أكثر مما نحتاج.

لماذا تظهر كل هذه السلوكيات السيئة في الليل ؟

هناك بعض الإجابات الواضحة. من الأسهل بكثير ارتكاب جريمة تحت جنح الظلام، هناك عدد أقل من الأشخاص المحيطين بنا والمستيقظين في الليل لمساعدتنا في حالة طلب النجدة.  ومع ذلك، من المحتمل أن يكون هناك أساس بيولوجي أيضًا.

أن التأثير اليومي على النشاط العصبي في أدمغتنا يتغير على مدار 24 ساعة، و الحفاظ على سلوكنا تحت السيطرة مما يؤدي إلى اختلافات في طريقة معالجتنا واستجابتنا للعالم .على سبيل المثال، التأثير الإيجابي، والميل إلى عرض المعلومات في ضوء إيجابي ، يكون في أعلى مستوياته خلال الصباح، عندما يتم ضبط التأثيرات اليومية على اليقظة، وفي أدنى نقطة خلال الليل، عندما يتم ضبط التأثيرات اليومية للنوم. بالتوازي، التأثير السلبي ، والميل إلى مشاهدة المعلومات في ضوء سلبي أو تهديدي هو الأعلى في الليل.

ينتج جسم أي الانسان بشكل طبيعي المزيد من الدوبامين في الليل. يمكن أن يغير هذا نظام المكافأة والتحفيز الخاص بكل شخص ويزيد من احتمالية الانخراط في سلوك محفوف بالمخاطر. تعمل أجزاء الدماغ المسؤولة عن صنع القرار، والتي تعمل عادةً على التحكم في الانحرافات العاطفية السلبية والتركيز على السلوك الموجه نحو الهدف. وفي الليل، تخضع هذه الأجزاء من الدماغ أيضًا لتغييرات متأثرة باليومية يمكن أن تضعف عملية صنع القرار والعمل وتحديد الأولويات.

كيف تتغير أدمغتنا عندما نكون مستيقظين بعد منتصف الليل

تقول الدكتورة إليزابيث كليرمان* “هناك ملايين الأشخاص الذين يستيقظون في منتصف الليل، وهناك دليل جيد إلى حد ما على أن دماغهم لا يعمل كما هو الحال خلال النهار”. فجأة، تضيق النظرة للعالم وتصبح أكثر سلبية، ويبدأ الشخص في اتخاذ قرارات سيئة، وقد لا تتطابق الخريطة العقلية التي يصنعها للعالم من حولك مع الواقع. يمكن أن تجعل هذه التغييرات الشخص أكثر عرضة للنظر إلى العالم بشكل سلبي، والانخراط في سلوكيات ضارة، واتخاذ قرارات مندفعة دون التفكير بشكل كامل في العواقب، بما في ذلك تلك المرتبطة بالسلوكيات المسببة للإدمان مثل تعاطي المخدرات والمقامرة

الفكرة الأساسية هي أنه من وجهة نظر تطورية عالمية عالية المستوى، يتم يتم ضبط الساعة البيولوجية الداخلية للبشر نحو العمليات التي تعزز النوم، وليس اليقظة، بعد منتصف الليل. معظم اللأشخاص لا يريدون أن يتم استدعاؤهم في منتصف الليل.

* “The Mind After Midnight: Nocturnal Wakefulness, Behavioral Dysregulation, and Psychopathology” by Andrew S. Tubbs, Fabian-Xosé Fernandez, Michael A. Grandner, Michael L. Perlis and Elizabeth B. Klerman, 3 March 2022, Frontiers in Network Physiology. DOI: 10.3389/fnetp.2021.830338

Leave a Comment