بغداد…
بغداد …أنت عبق التاريخ وموطن الحضارات، أنت الشاهدة الوحيدة عاى الخراب والدمار الذي حل بك أيتها الفاتنة, كل من زرك عشقك، وكل من سمع عنك ود لقاءك ، وكل من سار في طرقاتك تتعثر خطاه بحضارات سادت ثم بادت, وبقصص الف ليلة وليلة، والشاطر حسن, وحلاق بغداد, ومصباح علاء الدين …أنت من قال عنك أمير الشعراء أحمد شوقي
دع عنك روما واثينا وما حوتا كل اليواقيت في بغداد والتؤم
سأكتب اليوم اليك وحدك، وفقط لإذكرك ماذا فعلوا بطهارتك عبر التاريخ.
تدمير هولاكو لبغداد والخرنكعية
يقال بأنه عندما احتل المغول بغداد تعاون معهم من المحسوبين على أهل بغداد وأعانوهم على احتلال بغداد وقتل أهلها ودنار تراثها ونهب ثرواتها فنعتوهم أشراف بغداد ووصفوهم ب “الخرنكعية”، والتي تعني “أنهم نقاع خراء المحتل”, وهم بالفعل كذلك، ويبدو بأن التناسخ الخرنكعي ما زال يفرخ ويتكاثر.
يذكر ابن عرب شاه, وكان ضليعا باللغة العربية والفارسية والتركية، ما حل ببغداد بعد تدمير هولاكو لها ، یقول ” فلما أستخلص الأموال أمر بقتل الرجال، وأسر النساء والأطفال والنهب العام ، لسائر الأغنام ومن أخذ شیئاً فهو له ، لا یقطع أحد سبله ، ثم أمر بهدم البلد والإحراق ، وٕاعدام عینها على الإطلاق ، فمهما قال فعلوه ، وكل ما رسم امتثلوه ، فساروا بالبلد الأرض ، استوفوا أعمار أهلها بالفرض والقرض ، فلم یبقى منهم دیار، ولم ینج من تلك النار نافخ نار ، ویقال أنّه نجا من هذه النار الواقعة رجل باقعة ، فوصل إلى خراسان فسألوه عن هذا الشأن ، كیف كان ؟ فقال لهم بذلك اللسان ما صورته :
أمدند وكندند وسو ختند وكشتند وبردند و رفتند
یعني :
هجموا وهدموا وأحرقوا وأرهقوا ونهبوا وذهبوا
**
ابنة هولاكو تطوف في بغداد
يقال بأن ابنة هولاكو كانت تطوف في بغداد فرأت جمعاً من الناس يلتفـون حول رجل منهم، فسألت عنه، وأخبروها بأنه عالم من علماء المسلمين، فأمرت بإحضاره، فلما مثل بين يديها سألته: ألستم المؤمنين بالله ؟
قال : بلى.
قالت: ألا تزعمون أن الله يؤيد بنصره من يشاء؟
قال : بلى.
قالت: ألم ينصرنا الله عليكم؟
قال : بلى.
قالت: أفلا يعني ذلك أننا أحب إلى الله منكم ؟
قال: لا.
قالت: لم؟!
قال: ألا تعرفين راعي الغنم ؟
قالت : بلى.
قال: ألا يكون مع قطيعه بعض الكلاب؟
قالت: بلى.
قال: ما يفعل الراعي إذا شردت بعض أغنامه ، وخرجت عن سلطانه؟
قالت: يرسل عليها كلابه لتعيدها إلى سلطانه.
قال: كم تستمر في مطاردة الخراف؟
قالت: ما دامت شاردة.”
قال: فأنتم أيها التتار كلاب الله في أرضه وطالما بقينا شاردين عن منهج الله وطاعته فستبقون ورائنا حتى نعود إليه جل وعلا “
تدمير بغداد وتيمورلنك والخرنكعية
عندما اقترب تيمورلنك من بغداد، هرب حاكمها أحمد بن أويس إلى السلطان برقوق سلطان المماليك في القاهرة, وقربه منه وأعطاه نساءا وعبيدا, وقال يرثي حاله:
يقولون تيمور يعرج محاربا أما أنا فلم أعرج هاربا
بعدهروب أحمد بن أويس فتحت أبواب بغداد, ودفع السكان ضريبة الأمان, صادر تيمور أموال وكنوز السلطان أحمد , وأغلق الخمارات وبيوت الدعارة, ومكث فيها شهرين, ونقل أرباب الحرف والفنون والموسيقى والمنجمين والمهندسين المعماريين إلى سمرقند, وقد ولى عليها الخواجة مسعود الخراساني. هناك رواية بأن تيمور صادر أموال الناس حتى عم الفقر, وقتل سبعين شخصا من أعيان المدينة وعلامائها, وقد سلب المدينة المدينة ولم يخربها, وبلغ عدد القتلى 3000 قتيل.
بعد انسحاب تيمورلنك من بغداد توجه نحو تكريت وحاصر قلعتها الحصينة ودخلها عنوة وقتل أميرها “حسن بن زليمور” ردما تحت الجدران, وبنى من رؤوس القتلى مأذنتين وثلاث قباب.
وبعث تيمورلنك برسالة شفوية مع رسله, يعرض فيها انتقال التجار بحرية بين الممالك. ولكن السلطان برقوق قتل رسل تيمور. وفي هذا الوقت تحالف السلطان برقوق مع السلطان العثماني بايزيد، بعد أن تجاوز جيش تيمور حدود الأناضول، وقررا تأديب تيمور، ورأيا بأنه لا شيء يستطيع اعتراض جيوشهما حتى الفرات وبحر قزوين، وأن جناحي الجيشين محميين شمالا بالتركمان وجنوبا بالعرب السوريين.
زحف الجيش العثماني نحو الموصل, وزحف جيش المماليك نحو دجلة ثم بغداد, وأعاد السلطان أحمد بن أويس إلى بغداد, وأصبح يحكم باسم مصر. وأما تيمور فقد غير خططه بعد ورود أنباءا عن تحركات القبيلة الذهبية على حدود أذربيجان.
بدأ السلطان أحمد يشعر بالراحة والطمأنينة, وقد أفاق يوما على ضجيج طبل كبير, ينذر بأن تيمورلنك على أبواب بغداد.
تيمورلنك من دخول بغداد في 20 حزيران 1401. وفور دخوله عاصمة الخلافة امر تيمورلنك جنوده بارتكاب مجزرة عامة قاسية ومرعبة. ويقال انها جاءت انتقاما للعديد من ضباط جيشه البارزين الذين قتلوا اثناء المقاومة البغدادية للحصار. وقد اصدر تيمورلنك اوامرا قضت بابادة كل من تبقى من سكان بغداد بعد الحصار والقتال. ومن المثير للاستغراب، انه في خضم عمليات الابادة الجماعية لم يدّخر تيمورلنك حياة احد سوى الادباء ورجال الدين والشيوخ والمتصوفة. فقد وفرت قوات تيمورلنك لهؤلاء الملابس والطعام ونقلوا الى مكان امن. وقد ادار المغول عملية ايصال هؤلاء الى سرادق تيمورلنك، الذي اكرمهم وحتى عرض عليهم اردية الشرف!. وقد قيل ان سلوك تيمورلنك هذا كان مستحثا بعقليته التي كانت متاثرة بالادب!.
وبمعزل عن هؤلاء الادباء ورجال الدين والشيوخ، فان عموم السكان، بما فيهم الاطفال، جُزروا بطريقة منظمة وبلا رحمة. وبحسب ما اورده شرف الدين علي يزدي في كتابه “ظفرنامه” (كتاب النصر) الذي يعود للقرن السادس عشر، كان على كل جندي ان يجلب راسا لمواطن بغدادي الى الضابط المغولي ليدونه في الحساب!. بينما يشير ابن عربشاه في كتابه الذي يؤرخ فيه لتيمورلنك المعنون “عجائب المقدور في اخبار تيمور”، انه كان على كل جندي مغولي ان يجلب راسين. اما بالنسبة للابنية العامة فقد دُمرت بالكامل، واستثنى منها تيمورلنك الجوامع فقط! وقدّر ابن عربشاه ان عدد المواطنين البغداديين الذين جزرهم تيمورلنك وجنده كان نحو 90.000. وعُد الناجين من هذه المجزرة نادرين جدا. فبحسب كتاب “ظفرنامه” لم يتخطى عددهم 1%، وقد بيعوا في اسواق النخاسة كعبيد! وقد وزع جند تيمورلنك اكوام الرؤوس في كل انحاء بغداد. وطبقا للاخباريين فان تيمورلنك امر جيشه البربري ببناء 120 هرما تحوي نحو 90.000 جمجمة. وتُظهر احدى اللوحات التي اوردها شرف الدين علي يزدي في كتابه “ظفرنامه” جنودا مغول يقدمون الى لورد الحرب تيمورلنك الجالس على سجادة رؤوسا لبغداديين قُطعت عن اجسادها المتناثرة في المكان. كما تُظهر اللوحة ايضا احد ابراج الجماجم العالية للسكان البغداديين. وقد عجلت حرارة تموز الشديدة في العراق في عام 1401 في تفسخ الكم الهائل من جثث القتلى الموزعة في انحاء المدينة. واسهم تفسخ وتحلل الجثث بدوره في تفشي اوبئة اجبرت المنتصر على ان ينسحب من المدينة التي عانت هلاكا ودمارا فادح الكلفة على اهلها وتاريخها الانساني.
بغداد والبريطانيين والخرنكعية
عندما طرد البريطانيون الجيش التركي من جنوب العراق في الحرب العالمية الأولى ، أصدر الجنرال ستانلي مود ، القائد البريطاني ، إعلانًا أعلن فيه نفسه مسؤولاً عن المنطقة ، وأضاف أن جيوشه لم تأت “كفاتحين أو محتلين أو أعداء لكن كمحررين “. ثم قال مخاطبا اهالي محافظة بغداد: “منذ ايام هولاكو تعرضت مدينتكم وأراضيكم لاستبداد الغرباء ، وسقطت قصوركم في الخراب ، وغرقت حدائقكم في الخراب وأجدادكم وأهلهم. لقد أنينتم أنفسكم في العبودية “.
يبدو بأن الجنرال ستانلي ليس غريبا عن بغداد، انه ابن الأمبراطورية البريطانية, والتي كانت تعرف بالأمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، ويعزي الفلاسفة هذه المقولة ” لأن الإنجليزي لا يؤمن جانبه بعد غروب الشمس”.
تدمير بغداد والأمريكان والخرنكعية
أطلقت الهجمات 9/11/2001 العنان لما يسمى «الحرب على الإرهاب»، والتي بدأت بالغزو الأمريكي لأفغانستان في نفس العام. وأعقب ذلك غزو العراق بعد ذلك بعامين فيما أطلق عليه اسم «عملية حرية العراق» بقيادة جورج بوش الابن، ولا يزال تأثيرها محسوسًا في جميع أنحاء البلاد حتى اليوم.
بدأت عمليات القتل الجماعي للعراقيين في 19 مارس 2003، مع تفجير بغداد «بالصدمة والرعب». جلس الملايين مذهولين أمام شاشات التلفزيون الخاصة بهم، يشاهدون انفجار القنابل والصواريخ. جاءت التقارير مع تحذير من أنها تحتوي على صور وامضة. صحيح أن السماء فوق بغداد تومض باللون البرتقالي والذهبي، وأصوات الحرب تملأ الآذان. كان سرد الإرهاب الذي بدأ في ذلك اليوم أن يستمر لسنوات: الرعب من السماء، والإرهاب على الأرض، والإرهاب من الجندي الأجنبي، والإرهاب من الجار.
دمر غزو العراق عام 2003، بقيادة إدارة جورج دبليو بوش، جميع المؤسسات السياسية والاقتصادية القائمة، بهدف تحويل العراق إلى «مدينة فاضلة ليبرالية جديدة». عندما هُزم نظام صدام حسين وحل محله سلطة التحالف المؤقتة (CPA)، برئاسة بول بريمر، تم إدخال سلسلة من الإجراءات النيوليبرالية المكثفة بسرعة.
في غضون شهر، تمت خصخصة 200 شركة عراقية مملوكة للدولة، وخفضت ضريبة الشركات من 45٪ إلى 15٪. كما سُمح للشركات الأجنبية بالاحتفاظ بنسبة 100٪ من أصولها العراقية. علاوة على ذلك، تم وضع عائدات النفط العراقية، المصدر الرئيسي لنفقات الدولة، في صندوق التنمية للعراق (DFI) الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة. تم الاحتفاظ به في حساب لدى الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك واستخدم لإعادة هيكلة النفقات
وفقًا لتقارير مراجعة الحسابات التي ترعاها الحكومة الأمريكية إلى الكونجرس الأمريكي في يناير 2005، من المفتش العام الخاص لإعادة إعمار العراق (SIGIR)، كان هناك ضعف في الرقابة الحكومية وإجراءات التعاقد من الباطن مما سمح بالتكاليف المشكوك فيها دون اكتشافها. قدمت سلطة الائتلاف المؤقتة ضوابط أقل من كافية لحوالي 8.8 مليار دولار من صندوق التنمية للعراق، ولم تضع أو تنفذ ضوابط إدارية ومالية وتعاقدية كافية لضمان استخدام الأموال بطريقة شفافة.
في السنة الأولى من الاحتلال، فازت أكثر من 70 شركة وفردًا أمريكيًا (بما في ذلك Halliburton و Bechtel و Bearing Point) بعقود إعادة إعمار، تم دفع ثمنها إلى حد كبير من الأموال العراقية. خلال نفس الفترة، تلقت الشركات العراقية 2٪ فقط من قيمة العقود المدفوعة من الأموال العراقية.
عندما انتهت الحرب في العراق رسميًا في عام 2011، بإعلان الرئيس باراك أوباما انسحاب القوات، تُرك بلد يعاني من صدمة شديدة، مع اقتصاد مفلس تمامًا.
في السنوات الفاصلة، أصبحت رواية «الحرب على الإرهاب» واحدة من المبررات والتفسيرات والاتهامات وغياب المساءلة التي تركت دولة مدمرة ومنهوبة وشعبًا لا يزال يناضل من أجل حقوقه. وتراثها في أسماء ووجوه الأبرياء، والعاجزين والفقراء، وملايين اللاجئين، والجثث التي تم التقاطها من شوارع المدن العراقية، والمدفونة في مقابر جماعية، مجهولة الهوية وغير مطالب بها.
منذ الغزو، سجل عدد الجثث في العراق ما بين 185000 و 209000 قتيل مدني نتيجة للعنف. يرتفع العدد إلى 288000 عندما يتم ضم المقاتلين. لقد قتل التحالف وحده أكثر من 24000 مدني عراقي، وهذا العدد يرتفع إلى 33000 عندما نضم القتلى على أيدي قوات الدولة العراقية.
خلال الفترة 2003-2017، سجل عدد الجثث في العراق مقتل أ كثر من 7000 طفل عراقي، من بينهم 932 منسوبًا إلى تنظيم الدولة الإسلامية، بينما قُتل ضعف هذا العدد على يد التحالف الأمريكي البريطاني. تشير التقديرات إلى مقتل أكثر من 7400 طفل عراقي حتى عام 2021، مع أكثر من 1000 حالة وفاة منسوبة إلى تنظيم الدولة الإسلامية، ومرتين من القتلى على يد التحالف الأمريكي البريطاني.
كان الضحايا أشخاصًا من جميع مناحي الحياة: رعاة وصيادون وعمال بناء وعمال تنظيف شوارع وأطباء ورجال دين وصحفيون وسياسيون ورجال شرطة وربات منازل… قتلوا وهم يسيرون أو ينامون أو يقودون سياراتهم أو يغيرون إطارًا.
تشمل صور السنوات 20 الماضية توابيت خشبية وجثثًا بأكفان بيضاء وأسماء ووجوه القتلى، بعضهم يبتسم في صور قديمة، والعديد من السيارات التي تم تفجيرها. هناك أيضًا قصص لأبطال، مثل البائع أحمد دريويل البالغ من العمر 18 عامًا، الذي التقط قنبلة وركض معها، بعيدًا عن السوق المزدحم، في مدينة الصدر في اذار 2007، كان الوحيد الذي مات عندما انفجرت القنبلة.
في يوليو 2021، مع وصول درجات الحرارة في الصيف إلى مستويات حارقة، تدفق مئات العراقيين إلى الشوارع احتجاجًا على انقطاع التيار الكهربائي على نطاق واسع في بغداد والمحافظات الجنوبية في البلاد. وفي البصرة أغلق المتظاهرون الطرق السريعة وأحرقوا الإطارات.
أصيب العراقيون بالإحباط بسبب نقص المياه النظيفة والكهرباء، وانتشار الفقر، وارتفاع مستويات البطالة، والفساد الحكومي، والآفاق الكئيبة للسكان الشباب إلى حد كبير.
التفسير الشائع للاحتجاجات في وسائل الإعلام الغربية هو «ضعف تقديم الخدمات الحكومية» و «الفساد المستشري». انضم الفيلسوف السلوفيني سلافوي زيزيك إليهم في شرح «الانهيار التام لإمدادات الكهرباء» نتيجة «فساد الدولة الهائل في العراق، مع اختفاء مليارات الأموال النفطية في الجيوب الخاصة». هذا أيضًا هو الخط الرسمي الذي قدمته الوكالات الحكومية الأمريكية، التي تنتقد الفساد وعدم الكفاءة وسوء الإدارة في وزارة الخارجية العراقية.
لكن إلقاء اللوم فقط على فشل السلطات والشعب العراقي في تحسين ظروف الحياة والتوظيف في البلاد يتجاهل حقيقة أن غزو عام 2003، الذي أعقبه الاحتلال العسكري الذي استمر حتى عام 2011، استنزف موارد البلاد. سمح الاحتلال للشركات الغربية متعددة الجنسيات باستغلال الموارد العراقية دون سيطرة الحكومة تقريبًا.
والواقع أن الحالة المحزنة الحالية لاقتصاد العراق ومؤسساته هي نتيجة مباشرة لعوامل تاريخية وجغرافية تشمل الأثر المدمر للإمبريالية والاستغلال الذي لا يزال مستمرا حتى يومنا هذا.
يقول الاقتصاديون إن معدل الفقر في العراق ربما ارتفع من 20٪ في 2018 إلى 30٪ أو أكثر عام 2021، مما يعني أن 12 مليون عراقي يعيشون حاليًا تحت خط الفقر. في عام 2019، كان معدل بطالة الشباب المقدر في العراق 25%، في بلد يعاني فيه 60% السكان تقريبًا دون السن 25عاما.