لغتنا العربية والعولمة

مقدمة

يقول روستير(2001) بأن العولمة ليس تطور مستقبلي يمكن رفضه أو تقبله، انه تطور حدث بالفعل على نطاق واسع ولا يمكن أن يعود  إلى الوراء. ولكثير من الاشخاص في مختلف بقاع الارض ارتبط مفهوم العولمة بالأمركة ” نظام تم تصميمه لاحلا ل النظام الاقتصادي الامريكي في كافة بلدان العالم”، وبلغة أخرى نظام اقتصادي عالمي يخدم الاقتصاد الأمريكي ودول الثمانية الكبرى.  وقوة اللغة في عصرنا الحاضر مرتبط بالقوة السياسية والقوة الاقتصادية.

                  

)MacDonaldization المكدولندة  (

خلال انتشار مطاعم ماكدولاند للوجبات السريعة في جميع أنحاء العالم، والذي يعتبر رمزا لنظام المعيشة الامريكية. تستطيع دعوة اصدقائك إلى تناول الوجبات في أي وقت من اليوم ، ودون رسميات أو حجوزات، وكذلك هي العولمة تستطيع دخول أسواق أي دولة دون دعوة أو استئذان.  وغالبية الأدبيات التي تتناول مفهوم العولمة لا تربطه بمفهوم الاستعمار، حيث يتميز الاستعمار بسيطرة دولة (احتلال ) على أخرى  سيطرة سياسية واقتصادية بينما العولمة سيطرة منظومة اقتصادية تشمل الانتاج والاستهلاك . إن الناظر إلى هذين المصطلحين يرى بانهما يسيران جنبا إلى جنب ويدا بيد ولكن ليس بنفس الطرق دائما. إن العولمة ومكاسبها تسير بخطوات أسرع وتجارة رابحة اكثر  من الاستعمار . واللغة غير بعيدة عن تغيرات المجتمع الاجتماعية والاقتصادبية والسياسية. إن حالة السلام أخطر عل اللغة من حالة الحرب واندثار اللغة في حالة السلام وارد أكثر من حالة الحرب .

العولمة اللغوية

تفسر العولمة اللغوية على انها سيطرة اللغة الانكليزية على باقي لغات العالم.

ويبين الشكل (1)، بأن اللغة العربية تأتي في الترتيب السادس ما بين اللغات الأكثر شيوعا في العالم وذلك بعد اللغة الأنكليزية، واللغة الصينيية، واللغة الهندية، واللغة الاسبانية، واللغة الفرنسية.

شكل (1): أكثر لغات العالم انتشاراً

 

اللغة العربية مثل أي كائن حي آخر قابلة للتعايش في أ ي زمان وأي مناخ سياسي أو اقتصادي أو تاريخي وأي وسط اجتماعي. لا أريد أن اتحدث عن آلية اللغة العربية وعن بنيتها وعن جمالها وعن نحوها وصرفها فهناك الكثير من العلماء الاجلاء ممن كتبوا الكثيروالكثير من الكتب والمجلدات والأبحاث التي تبحث في مختلف شوؤن اللغة العربية.

يقول ابن خلدون في مقدمته  ” إن المغلوب مولع ابدا بالاقتداء بالغالب بشعاره وزيه ونحلته وسائر احواله وعوائده…. إن الامة إذا  غلبت وصارت في ملك غيرها, أسرع إليها الفناء”.

وفي وقتنا الحاضر يتجلى هذا القول في كل ناحية من حياتنا اليومية وفي سبل عيشنا وفي لغة تواصلنا في زمن العولمة هذا, فنرى سيطرة اللغة الأنكليزية على على لغتنا العربية:

– جميع معاهدات السلام التي تم توقيعا مع دولة اسرائيل هي باللغة الانكليزية.

– جميع الاتفاقيات السياسية والاقتصادية والتجارية والحربية والدفاع المشترك ….الخ هي باللغة الانكليزية.

– جميع عقود اعادة اعمار العراق والدول التي اهكها الخراب والتدمير باللغة الانكليزية.

– جميع شروط الحصول وانفاق المساعدات التي تحصل عليها الدول العربية هي بلغة البلد المانحة ونسخة منها باللغة الانكليزية.

– تشترط كثير من الشركات أو المنظمات الدولية أو حتى جهات حكومية عربية على من يعملون بها أن يكونوا من خريجي الجامعات الامريكية او البريطانية.

هل الأشخاص الذين يفاوضون أو الذين على رأس وفودهم على دراية  باللغة الانكليزية؟؟ إنها ليست اللغة الأم. أجمل تعبير هو ” اللغة الأم”. لا شيْ يعدل حضن الأم! لغتنا هي اللغة التي منها رضعنا أول رشفة حليب من أثداء امهاتنا، وسمعنا أول كلمة ونطقنا أول حرف وحبينا على ايقاعها حتى اشتد عودنا بها، فهي في كل نبضة وفي كل شهيق وفي  وفي كل قطرة دم تضخ من القلب.

لغتنا العربية هي لغة حلمنا, لغة تفكيرنا ” أنا افكر , اذا أنا موجود”. وجودنا مرتبط بلغتنا ونحلم بلغتنا.

إن الدعاة من السياسيين والاعلاميين بأن اللغة العربية غير مطواعة ويجب أن نستبدلها بلغة العولمة. ويقول علماء اللغة:” ان الشخص المتقن للغته الأم، هو الأكثر اجادة للغات الأخرى. هولاء الناس انفسهم لا يجيدون لغة الأم، ويدعون بأن اللغة الانكليزية هي لغة  النخبة, انهم كالذي يمشي على عكاز. انها لغة الغالب. انها لغة المرتزقة. انها لغة اسيادهم.

ماهي لغة الحلم ؟ ولغة الانتصار ولغة الأناشيد الوطنية التي تغنى بها الأحرار؟ انها اللغة العربية. لم  يتغنى أحرار وثوار الوطن العربي, ولم تكن اناشيدهم الا باللغة العربية.

مائة وثلاثون عاما من الاستعمارالفرنسي لدول المغرب العربي انهكت اللغة العربية ولكن لم تميتها وكانت لغة التحرير هي لغتنا الجميلة.

إذا الشعب يوما أراد الحياة               فلا بد أن يستجيب القدر

اللهجات العربية الدارجة وخطرها على اللغة العربية الفصحى

هناك الكثير من الباحثين في اللغة العربية يبدون تخوفهم من تغول اللهجات العامية. أعتقد جازما بأنه لا يوجد هناك أي سبب يدعو لتخوفهم من اللهجات الدارجة في البلدان العربية على اللغة العربية. يعتقد كثيرون بأنها خطر على مستقبل اللغة العربية. لا أعرف ما هي وجه الخطورة عل لغتنا العربية؟ وهل نستطيع ازالة اللهجات العاميةالعربية في البلد العربي الواحد وبالتالي في كافة الدول العربية؟!. إن كثرة الفضائيات ساهمت في انتشار اللهجات العامية أكثر من قبل, يجب أن نعترف بذلك. هل خطورة اللهجات العامية عل اللغة العربية أكثر من اللغة الإنكليزية, التي هي لغة العولمة؟ اللغة هي وسيلة تواصل بين الناس واللهجة المحلية هي وسيلة التخاطب والتواصل بين أفراد مجموعة معينة تسكن في رقعة جغرافية محددة.

موت اللغة

    إن ميلاد اللغة وموتها مرتبط بانبعاث أ ي أمة واندثارها. فليس من الممكن تصنيف اللغة بأنها كائن حي وأن تتبع  صنف معين من المخلوقات, فليس لها شهادة ميلاد حتى نقول بأنها ماتت ونصدر لها شهادة وفاة. فروح اللغة هي من روح الأمة التي تتكلمها, فاذا كانت الأمة قوية فلغتها قوية والعكس صحيح.

يعتبر النظام الاقتصادي في الامبراطورية الرومانية هو أول نظام يمثل العولمة وللمحافظة على هذاالنظام فان اللغة الاتينية كانت اللغة السائدة في الامبراطورية وانتشارها في البلاد التي كانت تحكمها الامبراطورية أمر واقع وذلك لتكون هي لغة التخاطب ما بين روما وبقية دول العالم. إن الناظر إلى وضعنا الحالي لا يرى اختلافا ما بين الأمس واليوم من هيمنة أمريكا بوصفها القوة الأكبر من الناحية العسكرية والاقتصادية، فلغتها الانكليزية هي السائدة.

كانت اللغة العربية هي اللغة المسيطرة في الأندلس ابان الحكم العربي، وبعد خروج العرب خرجت اللغة العربية معهم. هل هذا يعني موت اللغة العربية؟ إنه مجرد انحسار اللغة العربية عن بقعة جغرافية معينة, ولكنها لم تمت  ولم تنحسر في بقية الأماكن وبقيت اللغة الرئسيسة في شمال أفريقيا. ويرى بعض المستشرقين بأنل الغة العربية هي مرتبطة بالدين الأسلامي, فانحسارها في الاندلس كان نتيجة لانحسار الدين الاسلامي وثباتها في شمال افريقيا ارتبط بثبات الدين.

هناك بعض الباحثين يرون بأن اللغة العربية سوف تموت, لأن جميع خصائص موت اللغة متوفرة فيها. وأنا أقول لهم:” إن نعي  موت اللغة مقرون بنعي آخر فرد يتكلمها”.

هل العناية الإلهية تضمن حفظ اللغة العربية؟

يعتبر العرب والمسلمين بأن اللغة العربية، التي يبلغ عمرها ألفي عام تقريبا، والتي أنزل الله القرآن بها هي لغة مقدسة ولا يمكن أن تنقرض كبقية اللغات مثل السريانية والعبرية, وذلك بالرجوع إلى الآية الكريمة ” إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون” (الحجر-9). وأوضح الدكتور علي جمعة في مؤتمر ” لغة الطفل العربي في عصر العولمة” الذي عقد في مقر جامعة الدول العربية في المدة 17-19-2-2007 بأن القرآن الكريم لا يشتمل على جميع اللغة العربية من جذور وتراكيب ومعان, وإنما على نسبة قليلة منها ( أقل من 30% من الجذور العربية ) وهذه النسبة الصغيرة في سياقاتها ومعانيها ودلالاتها المحددة هي التي تستمد قدسيتها من القرآن الكريم,وأما غالبية اللغة العربية فليست مقدسة, ولهذا فهي عرضة للتغيير  , وطبعا للانقراض.

 

يتفاوت الكثير من المفكرين واللغويين العرب في نظرتهم إلى مستقبل اللغة العربية. فمنهم المتشائم ومنهم ا لمتفائل  في نظرتهم المستقبلية.

 

الجامعات العربية واللغة:

لقد تكونت لدي نظرية صغيرة وذلك بعد عملي لسنوات كأستاذ جامعي وهذه النظرية أسميتها: “نظرية التماثل”. فعلى سبيل المثال نشاهد مباراة في كرة القدم من الفرق العربية ونقارنها بمباراة بين الفرق الأجنبية فتكون النتيجة بأن ما نراه هو ليس لعب كرة قدم إنها “تماثل  لعبة” كرة القدم. واذا ما تم تطبيق هذه النظرية على جامعاتنا العربية نرى بأنها ليست جامعات ولكنها تماثل الجامعات. وخير دليل ما لمسناه بأن لا يوجد جامعة عربية واحدة كانت من ضمن أفضل خمسمائة  جامعة على مستوى العالم.

جميع دساتير الدول العربية تنص بأن اللغة الرسمية هي اللغة العربية، وجميع قوانين وانظمة وتعليمات الجامعات العربية تنص بأن لغة التدريس هي اللغة العربية. باستثناء الجامعات السورية، فجامعات المشرق العربي تدرس المواد العلمية باللغة الانكليزية ودول المغرب العربي باللغة الفرنسية. وكثير من طلبتنا لا يجيدون اللغة العربية إجادة تامة ولا كذلك اللغة الأجنبية, فاذا اعتبر المفكرون بأن اللغة هي وعاء الفكر , فكيف يستطيع طالب المرحلة الجامعية أن يملأ وعاءا سليما غير مثقوب تخر منه المعارف والعلوم التي يتعلمها دون أن يستطيع الاحتفاظ بها أو حتى الابداع بها.

إلى هذه اللحظة لم تكسب اللغة  العربية معركة التعليم, وبالذات معركة التعليم العالي.

كيف نجحت اللغة العربية في أن تكون لغة التعليم والتعلم في جميع مراحل التعليم ما دون الجامعي؟ وعدد  سنوات هذه المرحلة هي اثنا عشر عاما!

لقد استمر دراسة الطب في كلية القصر العيني بمصر فور افتتاحها باللغة العربية ولمدة 61 عاما, واستمرار التعليم باللغة العربية في جامعة دمشق  هو دليل واضح على صلاحية اللغة العربية.

كيف كسبت اللغة الكورية المعركة أمام اللغة اليابانية؟ ونحن نرى لغتنا حبيسة داخل أروقة جامعاتنا “جامعات التماثل”. كيف تغلبت اللغة الفيتنامية على اللغة الفرنسية بعد التحرير؟ ما هو عيب لغتنا العربية ؟ لا أعتقد بأن هناك أي عيب باللغة العربية, ويمكن تلخيص الأسباب كالتالي:

– يتم تعيين جميع رؤساء الجامعات أو المدراء بقرار سياسي وبالتالي وتنحصر المهام بشكل رئيسي في الحفاظ على أمن الجامعة. ولا فرق بين مهام رئيس الجامعة أو مديرها ومهام رئيس مغفر في قرية نائية. وهذا الأمر ينسحب على الأشخاص في الصف الثاني والثالث والرابع…الخ، وفي جميع مناصب الجامعة.

– النهوض بالجامعة والشؤون الأكاديمية والبحث العلمي ليست من الأولويات الأولى. فلم نسمع بأن رئيس أي دولة عربية القى خطاب في احدى الجامعات وأعلن استراتيجية جديدة أو تدشين مؤسسة علمية تعني بالبحث العلمي. وبالمقابل، نرى بأنه لم يبقى نجوما في السماء، لقد سقطت جميعها على أكتاف ضباط الجيوش العربية.

– ترقية أعضاء الهيئة التدريسية لا تسير حسب الأعراف الأكاديمية المعمول بها في الجامعات العالمية. تخضع في كثير من الأحيان  للإعتبارات السياسية أو الحزبية أو أن تأتي اوامر من جهات عليا بترقية شخص ما، وأن قائمة أبحاثه موجودة لديهم ولا يجوز الأطلاع عليها من قبل إدارة الجامعة وذلك لاسباب تتعلق بأمن الدولة وسرية الأبحاث التي قام بها. ورغم أن الإنفاق على البحث العلمي في الدول العربية يأتي في مرتبة متدنية مقارنة مع الأرقام العالمية.

هذه العوامل  التي تحصل في جامعات “التماثل ” أدت إلى تفريغ الكثير من الجامعات العربية من اساتذتها وهجرة الأدمغة منها ,ذلك لعدم وجود المناخ المناسب للعمل الاكاديمي الجاد ومناخ البحث العلمي. وبالتالي تراجعت اللغة العربية التي يجب أن تكون لغة البحث العلمي الذي هو ركيزة نهوض هذه الأمة ونهوض لغتها.

 

 

 

 

Leave a Comment