ما حقيقة شخصية جحا التاريخية؟!

تقع مدرسة نادر ديفان- بيجي على الجانب الشرقي من ساحة لياب هاوز وهي واحدة من ثلاثة مبانٍ تشكل المجمع  المعماري (الاثنان الآخران هما الخانقة “التكية” التي تحمل نفس الاسم ومدرسة كوكلداش في الشمال). تم بناؤه في عشرينيات القرن السادس عشر، (1619-23)، من قبل الوزير نادر ديفان- بيجي، خال الإمام قلي خان، حاكم بخارى من 1611-41.

هناك، وفي وسط الساحة بين هذه المدارس الثلاث، يوجد تمثال كبير، تمثال نصر الدين أفندي وحماره، أو جحا الأوزبكي وحماره، في مدينة بخارى بأوزبكستان.

شخصية جحا

شغلت شخصية “جحا” مكانةً مهمة في عالم  الأدب العربي، خاصة في باب الفكاهة والذكاء، يعود تاريخها إلى الثقافات القديمة، ولا يوجد شيء معروف بشكل قاطع عن الشخص الذي ألهم القصص في الأصل.

ويعد أحد أهم أبطال الفكاهة الشعبية، والشخصية المحبوبة من الكبار والصغار. ، وتروى عنه آلاف القصص والحكايات المليئة بالحكم الممزوجة بخفة الدم التي لا ينافسه فيها أحد إطلاقا، وفكاهاته التي لا تزال تسلي الناس وتبهجهم وترسم البسمة على وجوههم.

حجا في الموروث الشعبي

ونظرا ﻷهمية شخصية جحا في الموروث الثقافي الشعبي في كثير من دول الشرق الأوسط والاسلامية، ومع التطورات التكنولوجية الهائلة لم يتخلى الناس عن قصصه وطرائفه بل قاموا بتوظيف شخصيته وحكاياته ونوادره في تعليم الصغار وتهذيب سلوكياتهم، بقصصه التي تبهجهم وتعظهم في آن واحد، بطريقة سهلة وبسيطة. كما تم إنتاج أفلام كرتونية تحكي قصصه ونوادره، إلى جانب مسرحيات موسيقية وغنائية مستوحاة منه، وتطبع عنه كتب ملونة يقرؤها اﻷطفال خلال المراحل التعليمية اﻷولى.

 هل شخصية جحا أسطورة أم حقيقة ؟!

 وللإجابة على هذا السؤال ﻻ بد من العودة إلى الأصول التاريخية والتراثية لهذه الشخصية، فكل الشعوب واﻷمم صمّمت لنفسها جحا خاصًا بها.

شخصية شعبية أسطورية في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى، تم تصويره على أنه أحمق حكيم، أو بسيط ذكي، أو مخادع إرشادي.، أو  رجل دين ثانوي.

ومع اختلاف اﻷسماء والحكايات، إلا أنّ شخصية جحا الذكي البارع الذي يتصنّع الحماقة، وحماره لم تتغير. فنجد مُلّا نصر الدين في إيران وتركمانستان وأوزبكستان مثلًا. النوادر التي نسبت إلى شخصية جحا في عدد من الدول حسب محللين يستحيل أن تصدر عن شخصية واحدة لتباعد الثقافات والعادات والتقاليد واللهجات واللغات التي تروى عنها.

أولاَ: جحا العربي

من أقدم شخصيات جحا هو جحا العربي، يعتبر جحا العربي أول من ذكره الجاحظ في كتابه “القول في البغال” نوادر بطلها جُحا. هو أبو الغصن دجين الفزاري الذي عاصر الدولة اﻷموية، ولد عام 60 هـجرية وقضى معظم حياته في مدينة الكوفة العراقية وتوفي فيها. وذُكِرَ أنه تابعي، وكانت أمه خادمة ﻷنس بن مالك، وكان سمحًا ذا فطنة وذكاء. وإليه تنسب النكات العربية المتداولة وأضحكت العرب على مدى قرون. وتناقلت قصصه من شخص إلى آخر ومن مدينة إلى أخرى، وباتت نوادره تشبه قصص الخيال يرويها كل شخص بلهجته و بطريقته الخاصة.

كما اشتهر أبو نواس البغدادي باسم جحا في بلاد ما بين النهرين، وعاش ببغداد في عهد هارون الرشيد، وعرف بفكاهته وسعة حيلته.

ثانياَ: جحا التركي

أمّا جحا التركي “نصر الدين هوكا  (خوجة” (الرومي، ولد في قرية خورتو عام 1208 بالقرب من غربي مدينة أنقرة، وتوفي عام 1284 ودفن في مقبرة آق شهير، ولا تزال هناك مقبرة باسمه إلى اﻵن. عاش “نصر الدّين” في ظل الدولة السلجوقية، ومن ثم بداية عهد الدولة العثمانية.

ويعني لفظ “خوجة (هوكا) بالتركية المعلم، ويدل على الاحترام والتقدير لمن ينادى به.

كان نصر الدين رجلا صالحا عفيفا زاهدا، يحرث اﻷرض ويحتطب لنفسه بيديه، كما كان مرشدا ذا قوة وجراءة، لا يهاب في الحق لومة لائم، ويتحدث دون خوف في وجود الأمراء والحكام.

تلقى نصر الدين تعليما دينيا وكان والده إماما لجامع القرية، وبعد وفاة والده حل محله وأصبح مرشدا وواعظا يأتي بالمواعظ في قالب النوادر. كما تولى القضاء لبعض النواحي القريبة لمدينته وكان يحب السياحة فانتقل إلى قونية وأنقرة وبورصة وغيرها.

ويعتقد أن ملا نصر الدين خوجة ، وحسب كتب التاريخ ، عاش في عهد السلطان أورخان وعاصر السلطان بايزيد اﻷول، وعاصر الفاتح تيمورلنك ،ثم التقى به وأصبح من جلسائه. ويقال إنه كان السبب في إنقاذ قونية من بطش تيمورلنك. واعتزازًا بشخصيته توجد العديد من التماثيل لنصر الدين خوجة في عدة مدن تركية، وباﻷخص مدية آق شهير التي عمل قاضيا فيها إلى أن توفي ودفن فيها، وأنشئ له أيضا في المدينة متحف خاص.

ومن نوادره مع تيمورلنك أنه اشترى إوزة مقلية هدية له، غير أنّه جاع في الطريق فأكل فخذًا منها، ولما وصل إليه وعلم تيمورلنك بمكانته من الدعابة قال له: “أين فخذها؟”، فقال: “جميع الوز أيها الملك برجل واحد وإن لم تصدق فانظر الى أسرابه” وكان قرب مجلسه عدد منها ومن عادة الوز أنه إذا استراح وقف على رجل واحدة وقبض الأخرى. فلما رأى تيمورلنك ذلك أمر بضرب الطبول، فلما ضربت هاج الوز ومشى على رجليه، فقال الملك لجحا: “ألا ترى؟”، فأجابه مداعبا: “إنك لو هددت بمثل هذا لمشيت بأربعة أرجل”، فضحك تيمورلنك من دعابته.

ثالثا: جحا الإيراني

جحا الإيراني يلقب بالمولى نصر الدين من الشخصيات المحبوبة في البلاد التي أضحكت الملايين بنوادرها وأخبارها العجيبة لكنه بات اليوم في ذاكرة الناس مجرد شخصية خرافية من وحي الخيال، و كتب بعض رجال الأدب أن شخصية جحا حقيقية لها ماض مشرق وتاريخ عريق لما نسب إليها من طرائف كرست شخصية جحا رمزا للحماقة.

رابعا: جحا الأوروبي

لم تقتصر شخصية جحا المحبوبة على الدول العربية والاسلامية، بل اشتهرت شخصيات مشابهة له في دول أوروبية. ففي إيطاليا ومالطا عرفت شخصية جوخا وفي بلغاريا اشتهرت شخصية غابروفو المجبوب، وعرف أرتين سليط اللسان في أرمينيا والمغفل آرو في يوغوسلافيا.

صفات جحا

تُصوّر الرسومات الكاريكاتورية نصر الدين في صورة شيخ كبير السن، ممتلئ الجسم، ذي لحية بيضاء كبيرة، يرتدي عمامة بيضاء لا تقل ضخامة عن جسمه ولحيته، ويجلس على حماره بالمقلوب فاتحا ساقيه في الهواء.

ويقول عن سبب ركوبه حماره بالمقلوب، إنه كان يدير وجهه نحو تلاميذه الذين كانوا يسيرون خلفه ليعطيهم الدروس في أثناء سفره وتنقله على ظهر الحمار. وكان حماره نصفه الثاني يشاركه الأفكار والمشاريع ويرسمان خطتهم معا ويتطلعون دوما للتفوق والنجاح، حتى إنهم كانا يحذران بعضهما من الوقوع في الأخطاء.

من نوادر جحا

كان جحا ملّا (مدرسًا) أو معلما للصبيان في تركيا. كان رجلاً مشغولاً يعمل في مزرعة عنب، وكان إماما ويلقى خطبًا في المسجد، وأحيانًا قاضيًا. على الرغم من أن حياة جحا لم تكن سهلة، لديه زوجة مزعجة وكثيرة المتطلبات، وتدفق مستمر من الزوار غير المدعوين وغير المرغوب بهم، والعديد من الحيوانات. إلا أن قلبه كان دائمًا خفيفًا وكانت ملاحظاته حول الحياة تبدو بارعة. على سبيل المثال، عندما ضاع حماره، قدم جيرانه التعاطف، لكن جحا وجد الجانب المشرق: لو أنني كنت أركبه لضعت معه، ولم أجد نفسي!

ومن نوادره

كان جحا راكبا حماره حينما مر ببعض الناس وأراد أحدهم أن يمزح معه فقال له: يا جحا لقد عرفت حمارك ولم أعرفك. فقال جحا: “هذا طبيعي لأن الحمير تعرف بعضها.”

ومن تعليماته

أمر نصر الدين خوجة تلاميذه، عندما عطس، بتحيته بالتصفيق بأيديهم والصراخ: «الرخاء لك يا سيد!» الآن اتضح أنه في أحد الأيام سقط الدلو في البئر  نزل، وأمسك بالدلو، وكان الأولاد يسحبونه بالفعل، عندما، تمامًا كان يقترب من حافة البئر، صادف أن عطس. وإدراكًا منهم لأمر السيد، تركوا الحبل، وصفقوا بأيديهم بفرح عال، صرخوا معاً: «الرخاء لك يا سيد!».  «حاير أولا، خوجة»، سقط في البئر، وأصاب نفسه بكدمات على الجانبين. حسنًا، يا أولاد، لم يكن خطأكم، بل خطأي: “الكثير من الشرف ليس شيئًا جيدًا للإنسان”.

                جحا وحقوق المرأة

اشتكت زوجة نصر الدين خوجة بأن الناس  يعاملون النساء كما لو أن ليس لديهن أسماء خاصة بهن ”  فأنت دائمًا زوجة فلان”، وصدقني يازوجي ، لم أفعل ذلك لإلقاء اللوم عليك أو على أي شخص آخر. لقد تأثر بشدة وحزن الخوجة. قال لي: “أنت على حق يا زوجتي العزيزة. من الآن فصاعدًا، كلما سألوني عن اسمي، سأقول: “أنا زوج زوجة نصرالدين خوجة”.

    جحا والتهريب

 اعتاد جحا  اصطحاب حمار عبر الحدود كل يوم، مع تحميل القش عليه. منذ أن اعترف بأنه مهرب عندما كان يمشي إلى المنزل كل ليلة، يفتشه حراس الحدود مرارًا وتكرارًا. يفتشوا جسده، والقش ويغرقوه في الماء، بل وكثير من الأحيان يقوموا بحرقهوأحرقوها من وقت لآخر. التقى به أحد ضباط الجمارك بعد سنوات.

  • قال: «يمكنك إخباري الآن، نصر الدين». «مهما كان ما كنت تهربه، عندما لم نتمكن من القبض عليك ؟»

  • قال نصر الدين «الحمير».

فلسفة جحا

كان جحا يقول لتلاميذه:”أستطيع أن أرى في الظلام “. “قد يكون الأمر كذلك يا ملا. ولكن اذا كان هذا صحيحا، فلماذا تحمل شمعة احيانا ليلا ؟ “. «لمنع الآخرين من الاصطدام بي». وهذا يتفق مع فلسفة الفيلسوف اليوناني الشهير، ديوجينس الكلبي ، والذي قرر أن ينتقد الناس ويبين لهم خطأهم تنازلهم عن صفاتهم الآدمية وميولهم الحيوانية والسعي وراء شهواتهم، فأخذ مصباحه وقد أشعله وأمسك به وسار في الشارع في ضوء الشمس الواضحة، وهو كان يريد من الناس أن تتساءل عن تصرفه هذا حتى يرشدهم إلى أخطائهم، فلما رآه الناس التفوا حوله ليسألوه أو ينكروا عليه أن يسير في ضوء الشمس مشعلاً مصباحه.

جحا في القرن 20 ( مجلة الملا نصرالدين)

في عام 1906، بدأ محمد غولوزاد في إصدار مجلة أذربيجانية ساخرة هزلية بعنوان  “الملا نصرالدين”  في تبليسي، لا يوجد أحد في الأناضول لا يعرف الملا نصر الدين خوجة. يبدو الأمر كما لو أنه لا يوجد أحد لا يتأثر بلسانه الشهير الحاد، أو قوته النقدية الشاملة، أو إبداعه الفكاهي وموقفه المخالف ونهجه الفكاهي . وجد غولوزاد نفسه محاصراَ قدم واحدة إلى الغرب وقدمًا واحدة إلى الشرق، لقد اعتاد بالفعل على برد الرياح وحرارة الشمس، ومن كل شجرة تنمو في هذه الأرضالتي كانت مشغولة بكل من الوجوه الحلوة والمريرة لكونها ممرًا تاريخيًا لآلاف السنين. بينما كان عليه أن يواجه جميع تحديات الحياة، تعلم أيضًا الفرح والفكاهة والأدب الذكي كأفضل سلاح يمكن استخدامه ضد هذه التحديات.

هاجم الملا نصر الدين نفاق رجال الدين المسلمين، والسياسات الاستعمارية للدول الأوروبية، ولاحقًا الولايات المتحدة، تجاه بقية العالم وفساد النخب المحلية، بينما في نفس الوقت جادلت من أجل التغريب والإصلاح التعليمي والمساواة في الحقوق للمرأة. استمر صدور المجلة حتى عام 1930.

جحا في القرن 21 (جحا في حياتنا السياسية)

كل يوم نختبر تحديات الفكاهة في مواجهة الإدارات المستبدة للألم اليومي، التي تواجه الحياة أو السياسة أو العالم. إن العالم الذي نعيش فيه ليس عالما تتسامح معه الفوارق أو الاختلافات أو التنوع. سواء تم ذلك بدافع اشتراكي أو فردي، فإن الحياة هي وقت محدد لا نعيش فيه فقط، لكننا نفكر في الأمر، ونرى الآخرين. إنها شجاعة نادرة لجعل هذا التعريف من خلال الفكاهة، على عكس الماضي الشائع. ومع ذلك، فهي ليست حالة اليوم فقط، ولكن في تاريخنا، هناك أشخاص يمكننا تذكرهم باسمهم بأساليب مختلفة عن الناس في هذه الجغرافيا.

وربما جحا في وقتنا الحاضر له حضور في حياتنا، واليكم واحدة من نوادره في عصرنا هذا. يقوم جحا باكرا  كل يوم ويذهب إلى  المكتبة القريبة من بيته، يطلع جحا على الصفحة الأولى للجريدة، ثم يعيدها إلى مكانها ويغادر . ويستمر الحال على هذا المنوال. ومن باب الفضول يسأل صاحب المكتبة جحا:” أراك كل يوم تلقي نظرة فقط على الصفحة الأولى، أخبرني مالأمر يا جحا؟”. يجيبه جحا بحكمته وفطنته:”أنا أطّلع على صفحة الوفيات”. فيرد عليه صاحب المكتبة:” ولكن صفحة الوفيات في الداخل، وليس في الصفحة الأولى”. فيجيبه جحا ساخراَ:” أعرف ذلك، ولكن يظهر اسم الشخص الذي أريده في الصفحة الأولى”.

Leave a Comment