لا أذكر ملامح أبي جيداً، مات رحمه الله تعالى وأنا صغيرة، لم يكن ريشي قد اكتمل بعد. عصفورة كأنْ لا ريش ولا عظم لها.

قالت أمي إنه كان كثير السفر. عمله يتطلب منه ذلك. في الحقيقة هذا ما أذكره منه. يغيب طويلاً، فإن عاد، عاد حاملاً معه الدنيا لي.

هكذا كانت أيام بين حضور أبي وغيابه. أما حين يعود، فكأنما جلب لي الدنيا بأسرها. هدايا وألعاب من كل شكل ولون، كثيرة وجميلة.

لا زلت أذكر احتفالاتي الليلية مع كل ما يحضره لي أبي. احتفالات تشاركني فيه أرواح ألعابي كلها. فألعب معها وتلعب معي. كانت احتفالات لا تنتهي. نقيمها أنا وألعابي فوق سريري، حتى إذا ما تعبت ونمت حرستني ألعابي حتى الصباح، لأفيق على أصوات شَغَبِها هي وصوت أمي، وضجيج أخي منصور، منصور الذي يكبرني بعامين، الذي كنت أرى في عيونه غيرته من الدلال الذي يخصني به أبي دونه.

ما زلت أذكر يوم حملني أبي، أنا ولعبتي، من تحت درج أحد الجيران، وقد بدى على ملامحه الرعب. حينها كنت قد نمت هناك ساعة، على غفلة مني، وكان أبي قد عاد من السفر للتو، فلما سأل عني لم يجدني.

–        كان يوما صعباً على والدك.

هذا ما قالت لي أمي بعد سنوات، وهي تسرد لي القصة.

في إحدى المرات، كان قادماً من لندن،كعادته محملاً بهدايا، لي فيها نصيب الأسد. كانت هذه الألعاب كنزي الثمين، وحديث صديقاتي في الحي. صديقاتي اللواتي كنت ألهو معهن طوال الوقت، حتى إذا ما نادتني أمي عدت إليها، لكن بعد أن يكون صوت والدتي قد نبّه جيراننا كلهم.

-مونتي… والدتك تنادي عليك.

هذه صديقتي سحر، التي اعتدت أن ألعب معها ومع غيرها من بنات الحارة. لم تكن سحر بحاجة إلى ان تنبهني أن أمي تناديني. كنت أسمعها جيداً. لكنها ربما براءة الأطفال.

هكذا رسمت لي أمي صورة أبي وقد عاد إلى البيت، فسأل عني، فلم يجدني، قالت:

-كانت لحظات صعبة على والدك.

كان قد جاء باكراً إلى المنزل في فترة الغداء، ولما لم استجب لنداءاته سأل أمي عني، فأجابته أني في الغالب ألعب مع بنات الجيران في منزل إحداهن.

تقول أمي أن والدي حينها لم يصبر حتى أعود وطلب منها احضاري، فلما لم تجدني في ساحة المنزل، بدأت تطوف منازل صديقاتي، لكنها لم تجدني كذلك، فبدأ القلق يساورها.

–        أين يمكن ان تذهب؟!

حينها، بحثتْ عني أمي في كل مكان، ثم عادت إلى المنزل لعلي كنت ألعب في أحد زواياه، لكنها لم تعثر علي. فعادت إلى والدي والرعب يأكلها، فما كان منه إلا وخرج من المنزل، كالملدوغ بحثاً عني. صار يفتش في كل الأماكن المتوقعة وغير المتوقعة من دون جدوى. ومرت ساعات من رعب عليه، وعلى الأسرة، حتى اشترك الجيران في البحث عني.

يتبع

Leave a Comment